قوقعة فارغة

تابعت المناظرة التلفزيونية بين المرشحين لرئاسة فرنسا، إيمانويل ماكرون، المبهم الانتماء، ومارين لوبين الواضحة في تطرفها.

لا أنكر أن “أناي” الباحث عن الفرجة استمتع كثيرا طيلة الساعتين وما يزيد قليلا، بما تابعه على الشاشة الصغيرة وكأنه يتابع، وهو مستلق على أريكته البنية، مباراة في الملاكمة لا يكف المتباريان فيها عن تبادل الضربات بأقصى ما أوتيا من عنف وشراسة. فينشرح ويهلل ويشمت لما يتلقى الطرف الذي لا يحظى بتعاطفه الضربات الدامية.

ولكن لا أخفي أن “أناي” الآخر الباحث عن جرعات من العمق السياسي يخفف بها من حدة السطحية والابتذال اللذين يغمران بلادي، أصيب بخيبة أمل كبيرة. إذ ظل عبثا يربي الأمل طيلة مدة المناظرة ويتطلع إلى انبثاق وصفات مبتكرة لعلاج العلل المتعددة والمركبة التي تعاني منها فرنسا.. هذه البلاد التي كانت تمثل بالنسبة إليّ دائما مشتلا للمشاريع المجتمعية والفكرية الكبيرة، التي غيرت في كثير من لحظات التاريخ الحديث وجه أوروبا والعالم.. هذه البلاد التي يستنسخ منها المسؤولون على تدبير شؤون المغاربة كل شيء تقريبا.

في كل المواضيع التي تم تناولها طيلة مدة المناظرة، حافظ المرشح إيمانويل ماكرون على لونه السياسي المبهم:

فما هو باليساري الواضح، ولا حتى بالاشتراكي الديمقراطي. فمنسوب الحماية الاجتماعية يظل متواضعا في كل ما تحدث عنه.

ولا هو باليميني الصريح، ولا حتى اليميني الوسطي. إذ مافتئ “يُدرِّح” الخطوط العريضة لتوجهه الاقتصادي بقليل من “النهكات” الاجتماعية.

ولعل حالة “ماكرون”، الذي ترشحه بقوة كل استطلاعات الرأي لخلافة الاشتراكي الباهت فرانسوا هولاند بقصر الإيليزيه بعد انتخابات بعد غد الأحد، يجسد حالة التيه التي يعيشها السياسيون الفرنسيون بعد أن أصابت الشيخوخة التنظيمين، اليميني واليساري، اللذين هيمنا على الحياة السياسية منذ ولادة الجمهورية الخامسة في نهاية الخمسينيات. أي منذ أن نقل الجنرال شارل ديغول فرنسا من نظام برلماني خالص تتحكم فيه الأحزاب إلى نظام شبه رئاسي يتمتع فيه رئيس الدولة بصلاحيات واسعة، قبل أن يتحول إلى رئاسي خالص منذ الاستفتاء الذي جرى في بداية سنوات الألفين، إذ قلص الولاية الرئاسية من 7 إلى 5 سنوات.

أخشى أن يحتاج الفرنسيون، الذين كانوا سباقين في كثير من فترات التاريخ على درب الحداثة، إلى كثير من الوقت قبل الخروج من حالة التيه هذه، وتعود فرنسا إلى مكانة الريادة الفكرية والثقافية التي ظلت تحتلها لقرون، بما لها وما عليها.

رغم أن مناظرة، أول أمس، لم ترو البتة عطشي الصحراوي، إلا أنها على الأقل، ولعل هذه هي ميزتها الوحيدة، عرّت مشروع اليمين المتطرف، الذي بدا أجوف مثل قوقعة تصفر فيها الريح على شاطئ مهجور.. مشروع يقوم على عماد فريد وعمود وحيد هو إقصاء وإثارة الخوف من الآخر في كل تجلياته: الإسلام، أوروبا، العولمة… إلخ.

التعليقات مغلقة.