البحث عن شهادة طبية في جزيرة الخنازير

تأبّط “شبيب” ملف ترشّحه لأكاديمية التعليم ووقف ينتظرُ خلو الصف ليقبّل رأس الطبيب على شهادة طبية صلعاء ، يقبل رأسه فقط أما أنا فكنتُ مستعدا لتقبيل مؤخرته إن اقتضى الحال وصرتُ خنزيرا يقترف كل شيء في سبيل الحصول على وظيفة ملعونة .

منذ عرفتهُ وهو يسبّ ويلعن الإدارة والأوراق والشيوخ والمقدمين و حتى رجال الدين الذين يكنزون الذهب ويتصدقون بفراء الأضاحي التي أكلها الدود في عيد الأضحى ، ويسب الملفات التي تخرجُ منها المواعيد المقبورة في حينها إن لم تفهم رأسك أيها المواطن ورأسُك يفهم رأسَه دون أن تحتاج منه إلى تفسير يفضح الخشونة والرعونة .
فمهُ اليوم رأيته مدججا بكل أنواع السب ، كان دائما يفضل الجلوس في المقهى ليدخن أخبث السجائر ، سجائر التبغ الأسود الرديء بالتحديد ، على أن يقف أمام مسؤول يستجديه على ورقة مملوءة بالمعلومات التافهة . الوزن ، الطول ، السن ، العنوان ، اسم الأم ، اسم الأب ، رقم بطاقة الهوية ، نوع الهلاوس التي تراها في المنام عندما توشك على أكل الهريسة مساءً ، وتفاهات لاداعي لذكرها وبالنهاية يسمونها شهادة طبية يحلبونك حليبا أخرأَ بسببها ، يخرجونك من عين الدجاجة ويدخلونك إلى عين البومة كأنهم يمنحونك فرصة العمر في الهجرة إلى بلاد الزطازن les etats unis .
لأول وهلة ، وأنا أدخل المستشفى هذا اليوم ، ظننتُ الرجل مصابا بمرض ، كل الذين يقفون على صفوف الأطباء مصابون بالمرض ، وأقل مرض يمكن أن تتصوره فيهم هو مرض الرهاب/الفوبيا من المستقبل ، لكنه غير مريض ، الرجل بوقفة عسكرية يقف على رجليه لا ينقصه إلا صولجان الملك أو رشاش من نوع كلاشينكوف يفرغه بالكامل في وجه هذا القزم القابع على كرسي المشفى يتحامقُ على عباد الله .
كان يلبس سروال دجينز أزرق سماوي خفيف وقميص أبيض بتقاطيع زرقاء ، نظارات أنيقة ، لحية مشذبة بعناية ولو أن الشارب يبدو أطول بقليل ، وكل ما يهمه من الطبيب الأصلع أن يوقع له شهادة طبية لحاجة في نفس “شبيب”، أمامه اصطفت أرطالٌ من النساء البدينات كل واحدة تئن وتنوح وتتماوت ، أحسّ بالخراءة تملأ جوفه من قذارتهن وعفونتهن الفائحة ، انسدت عليه شهية الفطور واختلط عليه الشمّ حتى كاد أن يعود إلى عادته القديمة في شم أسطر النفحة .
الوقتُ يحتضر أمامه كجثة ملفوفة بكاغد مبلول توشك على التحلل لتـُـنـتن المكان ببخارها القذر ، مرة بعد مرة يضرب طلّة على ساعته اليدوية أو على هاتفه اللوحي يراقب الوقت الذي بدأ ينسحبُ هو الآخر ، يلزمه جمعَ أوراق الملف في أقرب وقت ليودعه قبل أن يغير القومُ رأيهم فيغلقوا أبواب الطلبات حتى إشعار آخر . لو توقف حظهُ التعيس على انتظار ورقة الطبيب لانتظر إلى آخر الشهر، ولزرع بباب المستشفى أشجارا من نوع الحشيش والخبيط الأعور الذي إذا أكلته القطط صارت حميرا وإذا شمـًّـته القردة مُسخت في صورة صحافيين يكتبون الكذب على صفحات الفيسبوك .
مدّ يده إلى السكرتير بالورقة ومالَ إليه بسؤال سهل : ( من فضلك أعطه الورقة ليوقِّعها في دقيقة ) . لم يكمل حديثه حتى دخلتُ من الخلف موجها إليه التحية : ( أهلا شبيب ، موجة العاطلين قوية هذا العام ، لم تستطع أنت أيضا مقاومتها ، حصّلتَ الشهادة وجئت تزاحم قدماء المعطّلين وجيش المغضوب عليهم والضالين ) .
أشار بشفته السفلى ومططها إلى الأمام باتجاه مكتب الطبيب وقال : ( شوف مع هاذ ولد ديلكلب الا بغا يعطينا شهادة طبية راه من زمن أبي نواس وأنا أنتظر ) .
قفزت على طابور النساء وتجاوزتُ الكل متظاهرا بالعرج حتى دخلت : ( سلام ، سلام ، شهادتان طبية من فضلك ، واحدة لي وأخرى لشبيب) . أجابني دون أن يلتفت : ( إذهب إلى المستشفى الكبير ، نحن هنا لانعطي شواهد ) . حاولتُ إقناعه دون طائل ، وقبل أن نتحوّل إلى مستشفى المجانين لنطلب شهادة تثبت سلامة حواسنا من الأمراض العقلية ، شددتُ على بطني بقوة أجمعُ الريح القادمة من المعي الغليظ ، انتظرتُ قليلا حتى تعصر بطني على الآخر ، فجـًّرتُ ضرطة بصوتها الملعلع في وجهه وخرجتُ أنا وشبيب بينما كان يطلبُ من سكريتيره إحضار كمامة لعزل ثالث أوكسييد الفـُـساء الذي أطلقتـُـه عليه بالمجان .

. قصة قصيرة . القاصّ محمد غزلـي .

التعليقات مغلقة.