نحو قراءة أخرى لظاهرة الإرهاب “الإسلامي”

إن ما حدث في العاصمة الفرنسية باريس وغيرها من مناطق العالم من اعتداءات إرهابية دموية وحشية يدفع كل صاحب عقل سليم إلى أن يخرج من صمته منذرا بالمسار الذي يسير إليه عالم اليوم، ومحذرا من عواقب السياسات الغربية العمياء، ومنتقدا لكل العوامل البنيوية للمجتمعات العربية ــ الإسلامية المنتجة للإرهاب.
إننا نقف في مرحلة تاريخية مصيرية تتحكم في حاضرنا وستتحكم في مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة في كل ربوع العالم، مرحلة تقضي على كل أشكال الفكر المتسامح والمتآخي التي راكمها الإنسان، وتدخله في دوائر الخوف بفعل الإرهاب وكل تجلياته من قمع وقتل وتشريد وتهجير وتخريب للعمران..
إن الخاسر الوحيد والضحية الوحيدة لما نسميه “ظاهرة الإرهاب” هو الإنسان، يجب إذن أن نعيد النظر في إنسانيتنا وفي حكمنا على الحيوان فهو أرقى منا سلوكا، لأنه خاضع لسلطة الغريزة التي تتحكم في أفعاله، نحن الكائن المتبجح بعقله والقادر على إخضاع ذاته للتفكير وفهم الأسباب والقوانين، وإنتاج التجارب والمعارف التي تحد من الصراعات الدموية وتنظم فضاء متسامحا للعيش بين كل الشعوب والثقافات والمعتقدات..نحن الكائن الوحيد على وجه الكرة الأرضية الذي يجب اتهامه بفعل جرائمه الواعية المدمرة للطبيعة ولكل أسباب العيش المستقر والآمن.
ونحن نعيد النظر في إنسانيتنا يجب أن نعيد النظر في التصورات الدينية ومنظومة القيم التي أنتجناها والمتحكمة في طبيعة العلاقات بيننا، و في كل القضايا المرتبطة بها، والتي تعكس وتخفي جذور الصراعات والنزاعات الإنسانية، مثل: حوار الثقافات/حوار الأديان/حوار الحضارات/ثقافة الاختلاف/التعدد الثقافي/التنمية/العولمة/الديمقراطية/العدالة/القانون/الحرية…الخ
مقصودنا ب”ظاهرة الإرهاب” هو استخدام كل أشكال العنف والقوة والسلطة من أجل إخضاع الآخر وإرهابه وقتله وتدميره وتحت أي ذريعة كانت: دينية، عرقية، سياسية… ووسم الإرهاب بالظاهرة عائد إلى كونه أصبح فعلا مخترقا للحدود ومتجاوزا للمجالات المحلية(سياقات المواجهة) إلى المجالات العالمية، بفعل العولمة وآلياتها التي جعلت العالم فضاء مفتوحا تسهل فيه الحركة والانتقال، كما تنتقل فيه المعارف والأفكار والتصورات بسيولة وانسيابية، إضافة إلى القدرة الميسرة على متابعة الأحداث والوقائع التي تقع في كل مناطق العالم. وكلما تكررت الأفعال وتوسعت مجالاتها وفضاءاتها الجغرافية كلما ارتفعت إلى مستوى “الظاهرة” التي يمكن رصدها وإدراكها حسيا وتجريبيا، وتحليلها في علاقاتها بالتصورات الذهنية المتحكمة فيها، لأن التصور الذهني ليس عالما مستقلا عن الواقع، بقدر ما هو حمولة فكرية ذهنية يتقاطع فيها الوعي واللاوعي تنعكس بشكل من الأشكال في الواقع، وهكذا فظاهرة الإرهاب واقعة فعلية تعكس تصورات وأفكارا ذهنية.
لقد سقطت كل دعوات جعل الإقناع مركز الحياة المعاصرة وضرورة ترسيخه عبر آليات الحوار والتواصل، وجعله أداة لحل الخلافات والنزاعات بعيدا عن الهيمنة الأحادية الإقصائية ــ الاستئصالية، وترسيخ ثقافة الاختلاف بوصفها نتيجة الوعي بالاختلاف والصدور عن ذلك الوعي ودراسته وتحليله الأمر الذي يحقق تراكما معرفيا وخبرة إدراكية تؤسس لثقافة تؤمن بالاختلاف بكل تجلياته، والدعوة إلى احترام “التعدد الثقافي” وجعله عاملا بنائيا انطلاقا من كونه ظاهرة أنثربولوجية ــ أنطولوجية ملازمة للإنسان والمجتمع. لقد سقطت كل هذه الدعوات أمام التزايد المرتفع للعنف والقتل والتدمير، وانتصار ثقافة الموت على ثقافة الحياة.
من المسؤول إذن عن سيادة هذه الثقافة العمياء؟ وهذه الوضعية المأساوية التي حطت من قيمة الإنسان كإنسان، وجعلته وحشا يتمتع ويتلذذ بالقتل والتخريب؟ وما هي أسباب نشوء هذا الفكر الإرهابي الوحشي؟
هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات واضحة وصريحة لنتمكن من فهم الجذور العميقة لكي نستطيع استئصال هذه الثقافة من عقول الناس وتمثلاتهم وبالتالي من سلوكاتهم.

يجب بداية أن نقرر بأن الإرهاب لا يقتصر على المسلمين فقط بل يشمل كل الثقافات والمجتمعات(البعد الأنثربولوجي للعنف)، ولا يمكن لأي جهة أن تدعي براءتها مما يحدث، فالكل مسؤول ومتهم، والمتهم متهم حتى يدلل على براءته نظريا وعمليا، عكس القاعدة المشهورة: “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” التي لا تناسب السياق الذي نتحدث عنه، فالغرب والمسلمون متهمون معا.
بالنسبة للأسباب المنتجة لهذه الظاهرة فهي تتوزع ــ في نظرنا ــ إلى سببين اثنين:
ــ سبب خارجي: متعلق بالسياسات الخارجية الغربية تجاه المجتمعات العربية ــ الإسلامية والتي يسيطر عليها هاجس الهيمنة والمصلحة دون التفكير في مساعدتها على النهوض بأوضاعها الداخلية، وإدماجها في ثقافة العصر عن الطريقة التنمية الشاملة، بل الملاحظ هو الإصرار على تأبيد التخلف وتبعاته وتكريسه بكل الوسائل بغية تكريس التبعية الاقتصادية والسياسية..وهكذا ففرنسا تتحمل قسطا من مسؤولية هذه الأحداث الدموية الأخيرة من حيث:
• فشلها في إدماج العرب والمسلمين ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، وتهميش سكان الضواحي وأغلبهم عرب ـ مسلمون.
• سياستها الخارجية التدخلية في مناطق النزاع، سوريا، العراق، مالي..
ــ سبب داخلي/بنيوي: وهو الذي يهمنا هنا، وهو سبب متجذرة في عمق الثقافة العربية ــ الإسلامية تؤسسه نصوصها الدينية وتجربتها التاريخية.
لقد أصبح “الإرهاب الإسلامي” ظاهرة تشمل كل الجغرافيا العالمية( ظاهرة عابرة للحدود)، وشغلا شاغلا لكل الدول، لأنه يهدد القيم النبيلة التي راكمتها التجربة الإنسانية عبر مراحلها التاريخية، وهكذا أصبحنا ملزمين بالمقاربة العقلانية النقدية التي تبتعد عن الإجابات الجاهزة والسطحية، وتنحو نحو استنطاق “المسكوت عنه” و “اللامفكر فيه” والمستحيل التفكير فيه” بلغة محمد أركون، وطرح الأسئلة الأكثر عمقا المزعزعة لكل العواطف والأحاسيس الراسخة في الذات الإسلامية. وإن ما تعيشه مجتمعاتنا هو حالة مأساوية يطبعها الإرهاب بكل صوره وتجلياته، فكيف نخرج من هذا المستنقع الحارق والمحرق والمميت؟ هل سنظل نتوارى وراء خطابات تجميلية لتاريخنا ومآسيه، وقراءات تأويلية مرواغة لنصوص بتنا ضحيتها الأوائل؟
ألم تحن لحظة إعلان الصراحة، وقول الحقيقة التي يسعى الجميع إلى إخفائها عن طريق لعبة التأويلات الإنقاذية للنصوص الدينية والتجربة التاريخية للمسلمين وتبرئتها مما يحدث منذ بدايتها مع النبي ودولته. إلى متى سنستمر في هذه اللعبة المفضوحة، ونبقى نلقي باللوم على الآخرين(فوبيا المؤامرة)؟
لقد حان الوقت لكي يواجه المثقف المفكر الظواهر والخطابات بعقل نقدي لكشف حقائقها المضمرة والمخبوءة دون لف أو دوران، لأن اختياره بأن يكون إنسانا حرا يحتم عليه تحمل تبعات هذا الاختيار، ولا ينبغي له أن يلجأ إلى التقية دفعا لضرر قد يصيبه.
إن الخطاب الإصلاحي الديني الذي بدأ مع عصر النهضة ومازال مستمرا إلى اليوم برهن على ضعفه وفشله وعدم قدرته على صناعة بديل ثقافي فكري لما هو سائد ومهيمن. وإعادة بناء التصورات والتمثلات وبالتالي بناء جيل جديد لا يتحقق إلا بعد التشخيص العلمي الدقيق لتوضيح العلل والأسباب.
مشكلتنا أننا ولدنا في مجتمعات لا تستطيع الانفكاك عن تصورات وأطروحات أصبحت تخترق كياننا وتسيطر على مشاعرنا، لذلك نجتهد مستعملين كل الوسائل والإمكانات لإبعاد التهمة عن ديننا وثقافتنا وتبرئتهما. لأن نقدهما العلمي سيكشف حقيقتهما، وهذا سيسقط كل الأوهام المتجذرة في عقولنا وعواطفنا التي تمنحنا معنى الوجود وما بعد الوجود.
تحتاج مجتمعاتنا الآن إلى صدمات قوية تزعزع مشاعرها العاطفية وتصوراتها الفكرية التي ألفتها وأصبحت حقائق مقدسة لا تقبل التشكيك. وهكذا فخطاب الصدمة العلمية( قيمة الشك المعرفي) هو الذي يجب أن يكتسح كل مجالات حياتنا.
إن داعش وأخواتها لا تستدل على أفعالها من التوراة أو الإنجيل أو التراث الفكري الغربي، بل تستدل من النصوص الأكثر موثوقية في الثقافة العربية ـ الإسلامية، وتستند إلى التجربة التاريخية: الاجتماعية والسياسة للنبي وخلفائه، ودوافعها يلخصها قول الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا محال في القياس بديــع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وسؤال من صنع داعش ومثيلاتها سؤال لا يفسر الظاهرة بقدر ما يساهم في تبرئة الذات واتهام الآخر.
لا يهمنا كثيرا “الإرهاب الإسلامي” في علاقته بالتنظيمات الجهادية من حيث كونها “تنظيمات دينية”، وإنما يهمنا خطابه المؤسس لفعلها الواقعي والذي يمنحه الشرعية ويرسخه في الأذهان.
يجب أن نقر بشكل صريح أن “الإرهاب الإسلامي” (القاعدة، داعش…الخ) ليس ظاهرة شاذة في المنطقة العربية ــ الإسلامية كما يتوهم بعض المتابعين، فالتكفير والقتل والتخريب لا طالما ارتبط بالتجربة التاريخية للمسلمين، وغض الطرف عن هذا الأمر هو هروب من الحقيقة واستمرار في خطاب التبرير.
فالخطاب “الإرهابي الإسلامي” هو خطاب ديني شرعي، وهنا تطرح الأسئلة: هل هذه الحركات الجهادية تستغل الدين ومقولاته من أجل تحقيق غايات معينة؟ هل تقوم ــ فعلا ــ بأدلجة الدين وتوظيفه لأغراض غير دينية؟ وهل الدين بريء من أفعالها؟
والواضح هو أن هذه الحركات تبني سلوكها العملي على نصوص دينية قرآنية وحديثية وتحاكي تجربة النبي وصحابته، معتمدة في ذلك على مصادر التراث الديني التي خلفها المسلمون القدماء، وليست قائمة على لًي أعناق النصوص وتطويعها لخدمة أهدافها كما تتوهم الأغلبية، ومن يتبنى أطروحة براءة الإسلام فعليه أن يقدم الدلائل النصية والتاريخية على ذلك، بعيدا عن القراءة الانتقائية.
والقارئ الذكي الحصيف يكفيه أن يلقي نظرة على التراث الديني الإسلامي(قرآن، حديث، فقه، سيرة، تفسير، عقيدة..) ليكتشف أن المشكل قابع في هذه البؤرة المنتجة للمعنى، والتي مازال المسلمون يعاملونها معاملة تجميلية ساذجة، فالقتل والتخريب والأسر والسبي وقطع الرؤوس باسم الله كان موجودا قبل وجود إسرائيل الصهيونية وأمريكا الشيطانية، كان منطلقه الحجاز(السعودية) ومنها خرج وتوسع جغرافيا وهيمن عسكريا.
لتكن لنا الجرأة على إعادة قراءة حركة النبي من مكة إلى المدينة وتجربة خلفائه من المدينة إلى خارج الحجاز، وتجربة الأمويين والعباسيين(الإمبراطورية) ومن جاء بعدهم، ولنقرأ أفعالهم التي دونها كتاب السير والتاريخ المسلمون وليس غيرهم، ولنقرأ أبواب الفقه التي استنبطت أحكامها من القرآن والسنة، ولنقرأ تفسيرات المفسرين للآيات القرآنية، وبعدها حدثونا عن سماحة الإسلام كيفما شئتم، لا أريد أن أقدم نماذج تمثيلية هنا، لكيلا أثقل كاهل القارئ، فقد أشرت إلى أصولها وهي معلومة.
إن المستخلص من هذا كله هو أن الثقافة العربية الإسلامية تتأبى عن قبول الحريات والتفكير النقدي العقلاني، فكلما ظهر مفكر يشك وينتقد ويطرح الأسئلة المزعجة للوعي الجمعي كلما ارتفعت الأصوات المنددة والتي ترميه في مهاوي الزندقة والكفر أو تقتله ببرودة دم وتحت يافطة القتل الشرعي المقدس الذي يقرب القاتل من ربه.
يحدثك الشيوخ عن تسامح الإسلام ودعوته للحوار في اللقاءات والمؤتمرات الرسمية، ولكن في منشوراتهم وخطبهم وقنواتهم يكفرون ويحرضون على الجهاد وسفك الدماء، ويستشهدون على ذلك من كل المراجع الذي يجمعون على دقتها وصحتها.
يحدثك قادة الأنظمة السياسية عن دعوة الإسلام إلى الوحدة والتضامن وهم متحالفون ضد بعضهم لتخريب مجتمعاتهم(التحالف الطائفي).
لماذا لم تستطع تركيا السنية خلق الوعي العقلاني رغم أن أتاتورك فرض العلمانية قسرا، ولم تتمكن تونس من تأسيس مجتمع حداثي منفتح رغم أن بورقيبة فرض الحداثة بقرارات سياسية حاسمة، ولم يستطع أغلب المسلمين الاندماج في المجتمعات الغربية ثقافيا واجتماعيا، فالشباب المقيم في أوربا يتهافت بأعداد كبيرة على الانضمام إلى الحركات الإرهابية في سوريا والعراق..؟
إن ظاهرة الإرهاب الإسلامي منبثقة من أعماق الذات العربية ــ الإسلامية، ولا سبيل إلى القضاء عليها إلا بالقضاء على جذورها العميقة، ويجب توجيه سهام النقد إلى البيئة الحاضنة للإرهاب والمنتجة له والتي تمنحه المعنى والشرعية: المناهج الدينية التي تدرس في هذه المجتمعات، الجمعيات الدينية الدعوية، المنظمات الإسلامية(الاتحاد العالمي لعلماء الإسلام، الرابطة العالمية لعلماء الإسلام…الخ)، الإعلام الذي يحتله رجال الدين والمؤثر الحقيقي في الرأي العام الديني والمشكل له…
أما المقاربات العسكرية والأمنية والقانونية فلم تعد قادرة على صد العمليات الإرهابية مهما كانت إمكاناتها المادية والتقنية والفنية والاستخباراتية، بل أصبحت تنتج ردود أفعال أكثر قوة، فالإرهاب بدوره يطور تقنياته وآليات اشتغاله وطرائقه التنفيذية ولم يعد فعلا عشوائيا بل أضحى فعلا استراتيجيا دقيقا. إن هذه المقاربات قد تطوق الإرهاب وتضعفه لكنها لن تقضي عليه، بل تكبته لينفجر بقوة أكبر عندما يجد الشروط المناسبة.
أكيد أن العامل الخارجي متورط ومساهم في صناعة “الإرهاب الإسلامي”، وهذا شيء مؤكد وواضح، لكن بالمقابل هناك عوامل بنيوية في ثقافتنا هي التي يجب الالتفات إليها للخروج من دائرة إلقاء التهم على الآخر، إذا أردنا فعلا تشكيل وعي جديد يؤمن بقبول الآخر وبقيم حقوق الإنسان ومبادئها وعلى رأسها قيمة الحرية.

 

محمد رحمون

 

التعليقات مغلقة.