أثر الفراشة

ياه.. كدت أنسى ذلك الشعور الفريد الذي غمرني مثل موجة منعشة بملوحتها اللاذعة ورغوتها المدغدغة.. خليط من الفرح بقرب نهاية النفق، والخوف مما هناك في الخارج.. مزيجٌ من الحماس لمولود واعد، والتردد في مد اليد إلى ماء النبع الجديد.

ياه.. كدت فعلا أنسى حلمي الأزرق الهش من فرط ما يحيط بي، وبنا جميعا، من قطع الرؤوس، وقطع الآمال، من دماء ووحشية وكراهية، نبعت كلها، بل انفجرت كالبركان المجنون، من تربة كنت (ولعل كثيرين مثلي) أترقب بشغف المُزارِع وخوفه أن تعطينا عنب الأمل الحلو، بدل حصرم اليأس، الذي زرع مرارته في أرواحنا قبل أبداننا.

كدت أنسى ذكرى «20 فبراير»، هذا الكائن، الذي أحسه أزرق، والذي جاء إلينا من عالم افتراضي.. من ذلك البعد الخامس مثل إله طيب أشفق علينا وجاء ليخرجنا من كهف أفلاطون.. جاء ليفك عنا سلاسل الخوف والتقاليد الاجتماعية والدينية، وخصوصا ذلك الخوف الخفي الذي لا لون ولا رائحة له مثل دخان الحطب، والذي تسرب ويتسرب في غفلة منا إلى كل مسامنا ويجعلنا نعاني من دوخة وشلل مزمنين.. جاء ليحررنا من هذه الأغلال الثقيلة والمعيقة مثل قيود السجناء الأمريكان.. حلّ بيننا ليعلمنا رفع الرأس قليلا لنرى هناك كوة يطل من شيئ مختلف عن الظلام الذي ألفناه وأدمناه كما أدمن عَمّي البشير التدخين.

جاءت «20 فبراير»، مثل كائن فضائي شفاف مقبل من المستقبل، مثل طفل صغير لا يتردد في إخراج لسانه أمام الأصنام المتجهمة التي تريد فرض جمودها على الجميع، والضحك من جهل الدناصير (من أحزاب وسياسيين و…)، التي عششت تحت آباطها وبين أصابعها العناكب وعلاها غبار الزمن. جاءت لتأخذ بيدنا مملكة الكائنات والرعايا إلى دولة الفرد الكامل في فردانيته.. الفرد القادر على مده وتحسس كينونته. وقد مكن هذا الكائن المغرب من الخروج من زمانه الحاضر الكئيب، والعيش، لبرهة، في زمان مواز أحس فيه بأن فردانيته المطمورة تطل برأسها خارج الكهف، وترفع صوتها صارخة: «الشعب يريد إسقاط الاستبداد»!

أجل، «20 فبراير» لم تولد في العالم الافتراضي فقط، بل هي كذلك مقبلة من المستقبل، وبالتالي، فقد كانت متقدمة على المجتمع الذي أتت لزيارته حاملة في أهدابها ريح ربيعية منعشة حركت «الغمولة» التي غمرت حياتنا، تماما كما ينعش عطر هذه الفتاة، الرشيقة المارة من أمامي، روحي.

كانت هذه نقطة قوتها الأساسية، وفي الآن نفسه مكمن ضعفها للأسف. فقد تبين أن «20 فبراير» كانت متقدمة كثيرا على هذا المجتمع المغربي الذي لم يستطع في نهاية المطاف مجاراتها.

لا شك أن الجزء الأكثر حيوية منه استطاع إرغام النظام على بعض التنازلات التي تمثلت في الخطوات المتقدمة، والتي جاءت في خطاب رئيس الدولة ليوم 9 مارس 2011، قبل أن يتم مزجها بكثير من ماء السلطة السري وإخراجها باهتة في دستور فاتح يوليوز. ولكن سرعان ما انقطعت أنفاس هذا المجتمع وهو يحاول مسايرة هذا المقبل من المستقبل، بسبب غلبة الطابع المحافظ على أوصاله، وبسبب كثرة الطفيليات التي أطلقتها السلطة وأصحاب المصالح، سياسة أكانت أم اقتصادية أو حتى دينية.

ربما عادت «20 فبراير» إلى ذلك البعد الخامس الأزرق الذي أتت منه، ولكن قبل ذلك تركت فيّ (وفينا كلنا على الأرجح) بصمة خفية تشبه أثر فراشة محمود درويش، «لا يُرى.. ولا يزول».. بصمة أخبئها هنا في مكان ما بين ضلوعي، هي التي بدّدت غيمة النسيان التي لفتني بها الأوجاع الكثيرة التي تحاصرنا من كل جانب، وهي التي نبهتني إلى ضرورة الاحتفال بهذا اليوم، ولو بسرية كما يفعل زوجان قديمان، وهي تدرك أنها لن تموت مادمنا نتذكرها، لأن «الموت الحقيقي هو النسيان»، كما قال غابريل كارثيا ماركيث.

التعليقات مغلقة.