يَسَارُهُم..ويَسَارُنا

لم يمثّل فوزُ حزب «سيريزا» اليوناني لحظةَ فرح كبير لقطاع واسع من الشعب اليوناني، بل امتدت البهجةُ نفسها إلى قلوب الكثير من الأوروبيين، ممّن تعبوا من سياسات بلدانهم، ولمسوا في رؤية اليسار الجديد وبرنامجه أفقا قادرا على تحريرهم من ضغط إجراءات حكوماتهم، وقساوة خطط الاتحاد الأوروبي وتوجيهات البنك الدولي.

 فمن رحم تأثيرات الأزمة المالية التي طالت أوروبا منذ العام 2007  ـ 2008، وُلِد ما يمكن تسميته «اليسار الجديد». ولأن قياديي هذا الأخير، امتلكوا كفاءة الاجتهاد لصياغة رؤية قريبة من معاناة شرائح اجتماعية واسعة، ضاقت درعا من سياسات التقشف، وربط الأحزمة، فقد حصدوا نتائجَ جعلتهم يتصدرون مواقع السلطة في اليونان، وتُرشِّح استطلاعات الرأي أن ينال حزب «بوديموس» اليساري الفوزَ نفسه في إسبانيا..والحال أن أمام كرة الثلج مراحل مقبلة من التدحرج  قبل الدُّنوّ من الاكتمال.

فمن مَكر التاريخ أن ولادةَ «اليسار الأوروبي الجديد» ـ الذي يحتاج، دون شك، إلى ردح من الزمن للحكم على أيلولته ـ  لم تكن بعيدةً عن سياق ما سمي «الربيع العربي»، بل كان هذا الأخير، إلى جانب الأزمة المالية والاقتصادية، مصدرَ تكوّن المشروع، وانطلاقه، ونجاحه. لذلك، يُساعدنا مُتغيِّر السياق على الاقتناع بفكرة أن السياق وحده لا يكفي لصنع حدث التغيير، بل يكمن إدراك التغيير في مدى قدرة النخبة على إعطاء معنى تاريخي للسياق، وكفاءتها على استثمار معطيات القوة فيه لصياغة رؤية موصِلة إليه، أي إلى التغيير.. نخبة اليسار الأوروبي الجديد نجحت حتى الآن في استثمار السياق لرسم آفاق ممكنة للتغيير.. فماذا عن يَسارِنا نحن؟ وما الذي يُفسر استعصاء امتلاكه القدرة على استثمار سياق الحراك لقيادة مشروع التغيير نحو الأفضل؟

في عموده الأسبوعي الأخير، تساءل الزميل «حسن طارق»، قائلا: «هل دفنا اليسار»؟ والحقيقة أن الفقرات الأخيرة من عموده لم تكن شيئاً آخر سوى الإقرار بحقيقة نعي اليسار ودفنه. بل لا أتردد في مشاطرة ما وصل إليه من أحكام بخصوص واقع «اليسار المؤسساتي» و»اليسار الاحتجاجي» في بلادنا..وأميل إلى الظن أن رواية الأستاذ «عبد الكريم غلاب» الموسومة: «دفنا الماضي»، تسمح باستعارة عنوانها لرسم صورة تقريبية عن حال ومآل اليسار المغربي اليوم.

سيكون مجحفا وغير موضوعي الوقوف عند هذا الحكم دون توضيحه.. ففكرة اليسار، أو اليسار كرؤية ومشروع مجتمعي مازال يحتفظ بجاذبيته لدى شرائح واسعة من المجتمع ممن اقتنعوا باستراتيجيته في إعادة بناء الدولة والمجتمع، وفي الظن أنه سيبقى أفقا منشودا، طالما هناك طلب اجتماعي عليه. لذلك، فاليسار المقصود هنا هو تحديداً النموذج التطبيقي الذي أفرزه مسار اليسار، والتجربة التي كونّها، والسيرورة التي عاشها وخَبِرها..وشتّان ما بين الفكرة والمشروع، والتجربة كما عاشها الناس وصنعتها النخبة على وجه الخصوص.

لا يختلف اثنان في أن ما قدم مناضلو اليسار من تضحيات لم يقدمها أي طيف سياسي آخر في المغرب الحديث..ولاشك أن هناك الآلاف ممن تَكوَّن منهم اليسار يحتفظون بالمشروع حيّاً في قلوبهم، وإن أنسَتهم زحمة الحياة وضيقُ اليد الكثير من أحلامهم الجميلة..ودون شك، هناك العديد من مناضلي اليسار ممن استفاق وعيُهم، فاجترحوا حلولا جذرية في حياتهم، منها ما أبعدتهم نهائيا عن الفعل السياسي، ومنها ما أوصلتهم إلى مسارب السلطة ومواقعها..وفي كل الأحوال لم يُدفن اليسار كفكرة ومشروع، بل دُفن نموذج يسار بسبب ممارسة نخبه، وتعقيدات سياقاته.

 يستطيع اليسار أن يكون مصدرا قويا للتوازن في مجتمع مركب كما هو حال المغرب..بل يستطيع أن يكون صمّام أمان في وجه حدّة الأطراف وتنازع مصالحها، غير أن اليسار يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى قدوة مُشبعة بقيم القيادة، ويحتاج إلى ثقافة سياسية ديمقراطية حقيقية، ويحتاج إلى مشروع جماعي واضح، ووحدة لا تُلغي الاختلاف..تلك هي مصادر تجنيب اليسار آفة دفنه.

التعليقات مغلقة.