“لَحمٌ للبَيع ومأساة للتأمل” على رصيف طنجة

استطلاع / أسامة بوكرين 

انمَحى قرصُ الشمس عن الوجود، وبارَحت طنجة في مكانِها تنتظر زوار الليل، كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصفِ الليل، والجَوّ على حرارتِه في مدنِ “الدّاخِل” بطنجَة يبعَث على الحياة.

استقرّ المارّة قرب مارينا على مشيئَة القدر وهو يحاوِلون إما انتزاعَ شهوة سليمَة أو تجاوز سكراتِ الخمرِ المتدفقة من مشارِب الحانات والملاهي الليلية المتواجِدة بقلبِ عاصِمة البوغاز.

وغيرَ بعيد عن تآوّهات السكارى، وعلى رصيفِ شارِع يحمِل في طيّاته ملايين الاستثمارات توجَد حياةٌ أخرى تعيشُها فتياتٌ قادِمات من مختلفِ مدن المملكَة الشريفة التي كانَت ولا زالَت تُجرِّم الفساد بدعوى أنه زِنا لكنها تسمَح به بسياسة “عَين ميكَة” في قالَبٍ اجتماعي تبرّره بسحَناتِ الفقر الظاهرة على عدد من بائعات الهوى.

على الرصيف

تتماشَى بدلالٍ مغرٍ لكن مظهرها يدلّ على أنها ليسَت إبنة أيٍ من الحواضِر، أو بالأدَق ليسَت إبنة وسطٍ اجتماعي راقٍ أو متوسِط، أجابَتني بعد سؤال خافِت بحِشمَة صحافي يتسلّل نحو شخصٍ لا بد أن تكون له قصة “ياك والو باس ؟”.

اسمُها منال، تبلُغ من العمر 25 سنة، جاءَت من مدينة تسمى سوق أربعاء الغَرب حيث طغى الفَقر على ملامِح التنمية، لتقول بعد أخذٍ وردٍ في الكلام “أنا جيت من مدينتي باش نضبّر على راسي ونهزّ ولدي”، مضيفة “الراجل تكَرفص عليا وسمح فيا بولدي فكرشي وحرَق للخاريج”.

وهكذا أعادَتني منال من آفةِ الدعارة إلى مآساة الهجرة السرية، فكيف يرمي أبٌ نفسَهُ في عرَضِ البحر تاركاً وراءَه شابة جميلة وإبناً، ثم تقول “تبَع مّو وخواتاتو، اصلا ماكانوش باغينو يتزوج بيا، ومني شافني حملت مشا قصَد البحر وخلاني واحَلة”.

 

استشرَى فيَ إحساس غريب، وتساءَلت بصوتٍ داخِلي هل للقسوَة عنوان أكبر من هذا ؟ فقاطَعَت سهوَتي قائلة ما مفاده أنها تعيلُ إلى جانبِ ابنِها، والدِها المُقعَد وأختها الصغرى التي تدرُس في جامعة ابن طفيل في القنيطرة.

” تعيشُ عدد من فتيات مدنِ الهامِش، قصصاً غريبَة تتعانَق فيها المآسي بالفواجِع والكوارث بفعلِ الوضعية الاجتماعية والنشآة” يقول مُرافِقي.

على منتصفِ الرصيف

استمَر الرصيف في الانقضاء، وكانَ الليل يزدادُ سُمرَةً في السماء، فرأيت قاصرين اثنين يقِفان لمغازَلة فتاة أخرى ترتدي جلّابة وتسيرُ بطريقة غجَرية، رمقتهما من بعيد وقادَني الفضول لسؤالهما “شحال فعمرك” ليجيبا “أنا سبعة عشر سنة وإسمي مهدي، وأنا حسام وسأبلغ 18 هذا الشهر”.

وبعدَ أن باغثهما سؤالي، حاوَلت ضيفتهما تلكَ الليلة للهروب ظانَّةً أنني من “أصحاب الحال” أي رجال الشرطة، لأطمّنها بسرعة، “أنا أحاوِل فقط التعرف عليكم” فعادَت إلى مجمعِنا لتقول “نسحابك بوليسي ا خويا وغادي تدّيوني اليوم نبات”.

“في معظمِ الأحيان أعاني من رجال الشرطة، يمسكونني لأنني من فتيات ليلِ الدرجة الثانية، ولا قدرة لي على ركوب سيارة أو التنقل من مكانٍ إلى أخر عبر تاكسي لأن ثمنه مكلّف”، تضيف أحلام، 22 سنة، طالبة سابقة في كلية القانون بجامعة عبد المالك السعدي.

وتسترسِل مُحَدِّثَتي ” لا يتساهَل هنا رجال الشرطة مع وسطاء القِوادة وفتيات الليل في حالة إثارة الفوضى” لكنهم “ولاد النّاس ويغضّون الطرف عن بعض الحالات بحسٍ إنساني”.

وهل مِن العادي أن تساوِمي زبناءً قاصرين كما هو حال مهدي وحسام ؟ سألتها مستبطِنناً جواباً أنتظِره عن قلّة الحاجَة وضعف الإقبال، لتقول “لا أفضِلُ هذا النوع من الزبائن، لكنه متحكّم فيه، وتستطيع الحصول على نوعٍ من الأمان في حضرتِه”.

 

ورغمَ أن القانون متشدّد في محاربة استغلال القاصرين والتغرير بهِم، إلا أن الأمر يكون سنلاً حينما يتعلّق الأمر بقاصِر ذكر لا بقاصِرٍ أنثى.

 

تعيشُ طنجَة بعد منتصفِ الليل، حالَة من الغرَق في مظاهِر الغرابَة والجنون، فكيفَ يقبِل خليجيون على ملاهيها، وكيف يرمي مثليوها نفسهم في مصافِّ بائعات الهوى على شواطئِها، وكيف يصبِح الرصيف ملجأً لمنال وأحلام وغيرهما، وكيف يجدِ مثل حسام ومهدي ملاذهما في اكتشاف أجسادِ إناثٍ خبِرنَ الجِنسَ أكثر ممّا خبِرنَ سُنَن الحياة.

التعليقات مغلقة.