الجديدة ومهرجان الضحك .

يجب أن أقدم التحية التي تناسب المشاركين في مهرجان الضحك المقام حاليا بمدينة الجديدة . وما كتبته هنا ليس رفضا لهذا المهرجان ولا يتجه خطابي إلى المشاركين في المهرجان من أصدقائنا المبدعين والمسرحيين ، بل إنني أرى أنهم نموذج للإنسان المرح الواعي الذي يحاول إسعاد الإنسان برغم الألم وبرغم قلة إمكانات الفنان المسرحي الجديدي . إضحاك شعب مغلوب ولو لبعض الوقت حسنة جارية وصدقة واجبة تستحق التصفيق ورفع القبعة والدعم . لم يبق لهذا الشعب إلا أن يضحك لينسى . فتحية لهؤلاء من الأعماق .

الإضحاك عملية صعبة .  ليس من السهل أن تـُـضحك إنسانا معقدا بعقده النفسية والاجتماعية  في زمن معقد بغلاءه وعطالته  ، كل ما هناك أنك قد تستطيع أن تثير ضحكة المواطن الصفراء الباردة فحسبُ . وإلا فقل لي كيف يمكن أن تضحك غريقا يغرق في البحر وهو يعبّ الماء المالح عبـًّـا بين الحياة والموت . المواطن أشد غرقا في مشاكله وهمومه اليومية من غريق الموج ومع ذلك يضحك وينتج النكتة .

الحقيقة ، وإن كان هناك من يـُضحـِـكُ الشعب ، فالبعض يضحك قريبا من الشعب بالاستثمار في إضحاك الشعب وإبكاءِه ، والبعض الآخر يضحك على الشعب  علانية ، فمن يا ترى الرابح من هؤلاء الأنواع الثلاثة ؟

برغم تشجيعي لمثل هذه الأنشطة المسرحية القليلة في المدينة ، التي يقوم بها فنانون مسرحيون يحتاجون إلى الدعم المتواصل ، إلا أنني لا أستطيع أن أوقف انتقادات المنتقدين للمهرجان الذين يعتقدون بأن إقامة  مهرجان خاص للضحك هو في حقيقة الأمر ضحك على الشعب . هل تحقق كل شيء للمواطن  إلا الضحك ، هذا الفعل العظيم المفقود الذي يستحق كلّ هذه التظاهرات لاستعادته ؟ .

“حمودة” الشخصية النموذجية في الصبر والتحمل سألته يوما : لماذا لا تضحك كما يضحكون ؟. فقال لي : إنني لا أضحك حتى تكون لي زوجة وأولاد وسيارة وعمارة وأكسب احترامي وكرامتي بين الناس، فتحقيق هذه الأشياء هو الذي سيفرحني ويخرجني من أسفي ليضحكني ، وما سوى ذلك فكذب ونفاق .

يقول أبي : إننا نضحك في آخر اليوم حين ننتهي من العمل ، أو حين نعود من الحقل إلى “لـْـخيمة” في آخر اليوم ، هناك يكون لنا متسع من الضحك على مائدة الخبز والشاي وقليل من “لـْـمرقة باللحم”. عندما نرى حجم العمل الذي قمنا به في الحقل سنضحك أو نكف عن الضحك بحسب المنتوج الذي أنتجناه طوال اليوم . لو ضحكنا قبل إتمام العمل هذا عيب عندنا في القبيلة يحتاج إلى تخييط الفم بسلك من الحديد . أما لو فشلنا وفشل العمل فلن نضحك أبدا بل يجب أن نبكي كما تبكي النساء يوم الدفن .

منطق بسيط وسليم يتمتع به والدي . لمجرد الفشل لا يستطيع أن يقيم مأدبة للضحك ، فماذا سيقول  لو قيل له إن مدينة بأسرها فاشلة في كل شيء ، في الصحة، وفي التعليم ،وفي السكن، وفي الرياضة، وفي الدين والتدين ،وفي البنيات التحتية وقنوات الصرف الصحي المخنوقة على طول العام صيفا وشتاءا ،وفي الثقافة والفن ،وفي التغذية ،وفي الاقتصاد، وفي السياسة وغيرها .. مع كل هذا تقيم للضحك مهرجانا سنويا خاصا ؟.

أذكر وأنا شابّ صغير أن مدرستنا كانت قريبة من السوق الأسبوعي ، وكنا ننتظر يوم السوق بحرقة لنتفرج على “لحلايقية” فرارا من حصة الرياضيات وبعض المواد التي تسبب لنا الغثيان ، كنا مجموعة من الرفاق الفـَـشـَـلـَـة ، مرة ولجتُ حلقة التهريج وفغرتُ فمي جيدا للضحك . نسيت حقيبتي فوق ظهري ونسيتُ معها حصصي الدراسية   فلم أنتبه إلا وصفعة الوالد تنهال على قفاي من خلفي . جرَّ الوالد أذني وحكها جيدا بأصبعيه الصلبة بشدة حتى كادت أن تتقطع من الألم وهو يقول لي : عندما تنجح في دراستك تعال إلى حلقات المهرجين . هؤلاء يفتحون أفواهكم البلهاء ليسرقوا جيوبكم . اِستيقظ من نومك أيها الغبي وْحـْضِي راسـْـكْ منهم … الضحك يكون بعد النجاح . ثم ساقني إلى البيت ليقدِّم لي وجبة رفس وركل وسياط تلهب ظهري العاري .

 

التعليقات مغلقة.