سراب الأرض الموعودة

أنا واحد من المنتمين إلى تلك الشريحة العريضة من المغاربة الذين أحسوا، منذ أن تسلل بعض الوعي إليهم، أنهم أعضاء في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.. أعضاء لا يحتاجون إلى أداء واجب الاشتراك، وليسوا في حاجة إلى بطاقة انتماء. ولسنين عديدة وطويلة وعريضة كان الاتحاد الاشتراكي تلك السفنية التي أعول عليها وأظنها قادرة على حملي –أنا وكل البسطاء الحالمين مثلي- إلى هناك حيث ينتفي الخوف من بطش سلطة كنت أحس بأنفاسها المزعجة دوما هنا قريبا من رقبتي، ويحل الإحساس بالأمان وما تيسر من عدل.. كان الاتحاد، بأسمائه المهيبة ولونه البنفسجي ثم وردته، “موساي” الذي أسير خلفه قاطعا الصحراء والبحر على أمل الوصول إلى الأرض الموعودة.

كنت أتابع أخبار قاداته الكبار مثلما يتابع غيري حكايات نجوم السينما. وكنت أنبهر عند سماع حكايا صراعاتهم مع النظام، وأتساءل من أين كانوا يأتون بكل تلك الجسارة! وكم كنت أفرح في الثمانينيات والتسعينيات حينما كان أحدهم يصرخ في وجه السلطة، وكنت أحس أن صوتي المرتجف يصل إلى عنان السماء ويصدح بما في الصدر من حنق وغضب دون رجفة الخوف التي تغمر الروح.

في بداية 1992، يوم وفاة عبدالرحيم بوعبيد، تأكدت بما لا يدع مجالا للشك أنني لم أكن سوى واحد من حشد لا نهائي وضع كل تلك الأمال والأحلام التي تسكن الصدور في هذا المشروع المجتمعي. تأكدت بعدما وقفت على تلك الحشود التي سارت خلف نعش الزعيم المهيب.

ضحكت كثيرا حد الشماتة في 1993 لما حقق الاتحاد بالتحالف مع الاستقلال نتائج مبهرة في انتخابات ثلثي مجلس النواب بالاقتراع المباشر. ورَدت على ذلك السلطة بقلب ميزان النتائج في انتخابات الثلث غير المباشر. ولكن هذا زاد فقط، في إيماني بأنني “موساي” يسير على الطريق الصحيح نحو “الأرض الموعودة”.. أرض أكمل فيها بناء فردانيتي.. أرض أتحرر فيها من قيد الجماعة وقهرها.. أرض يتبدد فيها ذلك الخوف الذي يخنق صوتي هنا في هذا الصدر.

وحسبت أنني بلغت هذه الأرض الموعودة عندما احتل الاتحاد أخيرا، في انتخابات 1997، المرتبة التي تليق به وتعكس مكانته إلى حد ما في المجتمع المغربي. ولكن سرعان ما تبين، في بضع سنين، أن ما أخذني إليه “موساي” لم يكن سوى سراب تبدد كما يتبدد الضباب لأجد نفسي وحيدا في الصحراء، وأجد معين الإيمان بهذا الاتحاد قد أخذ ينضب، بعد أن تحول إلى تنظيم سياسي باهت، ذابل، مثل كل التنظيمات الأخرى، ولم يعد قادته يكثرتون كثيرا  لروحه وإرثه وماضيه. وصاروا يقبلون بأي غنيمة مهما كانت هزيلة وخادشة لصورة الاتحاد وجارحة لفكرته ومشروعه الراقي، أو الذي كان راقيا.

لست هنا مستعدا للدخول في ثنايا الأسباب التي أفضت إلى هذا الوضع المؤسف لتنظيم مهيب، كان المنتمون إليه حقا يشكلون أضعاف من يملكون بطائق الانتساب إليه. فهي معقدة وتختلط فيها الحسابات الانتهازية الشخصية الضيقة بغياب الخيال، ويمتزج فيها السعي إلى المكاسب الزائلة بضعف الإرادة، ويعانق فيها الترهل الداخلي بالأيادي الخارجية.

أنا هنا فقط، لأرفع صوتي المبحوح هذا في وجه من جعلوا “موساي” يزيغ عن الطريق نحو “الأرض الموعودة”، ويتركني في الصحراء وحيدا “أفعل ما يفعل السجناء والعاطلون عن العمل .. أربي الأمل”، كما قال محمود دوريش مرة.

التعليقات مغلقة.