الحروب الكاذِبة

من المعروف أن حروبا كثيرة عرفتها البشرية خلال أطوار عديدة من تاريخها، وقد أثبتت الوقائع أنها لم تكن مؤسسةً على اعتبارات شرعية ولا مُقنعة، وأن كثيراً ما كانت وراءها حسابات المصلحة الضيقة والخاصة أكثر من غيرها من الأسباب. أما الكُلفة الناجمة عنها، والمترتبة عن دمارها، فتحملتها المجتمعات بشريا وماديا. لنتذكر، على سبيل المثال، الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما حصدتا من أرواح، وخلفتا من دمار في العُمران والاقتصاد وحركية النمو.

ولنتذكر، أيضا، كيف أمعنت “حروب القرن العشرين الظالِمة” في اختلاق مُسَوّغات تفكيك دول والتشجيع على ميلاد أخرى بغير حق، نُشير فقط، إلى تلك التي أقدمت عليها فرنسا وبريطانيا بداية القرن العشرين (1916)  لتبرير دخولها إلى المشرق العربي وتفكيك “سوريا الطبيعية” أو “الهلال الخصيب”، وزرع “إسرائيل”، قبل الاعتراف بها دوليا عام 1947.

كشف تقريرا كل من “جون شيلكوت” )2016(، وقبله بسنة تقريرُ Feinstein عن عدم صحة المبررات والدواعي، التي تمّ الاستناد عليها في غزو العراق ربيع 2003، وتنفيذ مخطط هدم دولته، وتفكيك باقي المؤسسات، والعمل على إعادة صياغة واقع العراق وفق رؤية جديدة، أكدت الوقائع في الميدان خطورتها ليس على العراق وحده، بل على المنطقة برمتها، وبدون شك على جدلية الأمن والاستقرار في العالم. فما أثبته تقرير “جون شيلكوت”، وأعلن عنه رسميا يوم الأربعاء 6 يوليوز 2016، أعطى الدليل على الدور الخطير لبريطانيا على عهد رئيس وزرائها السابق “توني برلير” (1997 ــــ 2007)، ومساهمتها المركزية، إلى جانب أمريكا، في تضليل الرأي العام الوطني والدولي، بحديثها قبل الحرب عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وإقناعها بضرورة التحالف من أجل تدمير هذه الأسلحة، وتحطيم “البلد المنتج والحاضِن لها”، أي العراق ومؤسساته ونسيج مجتمعه.. وهذا ما حصل فعلا بداية الغزو، وعلى امتداد مراحله اللاحقة.

ما الفائدة اليوم، من تقرير أدان دور بريطانيا، وقبله بقليل تقارير أدانت، هي الأخرى، الولايات المتحدة الأمريكية، وأثبتت فصول التعذيب والتنكيل التي طالت كل فئات المجتمع العراقي ظلماً وبغير وجه حق؟؟ إنه سؤال جدير بالتفكير والتأمل.

لاشك أن الفائدة المباشرة لهذه التقارير تكمن في قيمتها التاريخية كوثائق، تُعري “أسطورة الحرب العادلة”، وتكشف عن حجم المؤامرة التي تعرضت لها الدول المعنية بهذه الحروب. ثم إن فوائدها الأخرى تظهر في ما يمكن نعته “الدروس المستفادة” من مثل هذه الحروب الكاذِبة، التي ما انفكت تتكرر في التاريخ، وتُلبسُ بألبسة تتلاءم مع سياقات الحروب وظروفها الملتبسة. وفي موضوع غزو العراق، يبدو أن الدرس يكمن في ما تعرضت له المنطقة العربية من تغييرات لا تُعرف على وجه اليقين مآلاتها.. فالعراق أرجع قروناً إلى الوراء ولا أمل يُرجى من شفائه على الأقل في الزمنين القريب والمتوسط، و”الديمقراطية” التي تمّ التبشير بها، وُلدت ميتة، بسبب افتقادها إلى التربة المغذية لها، والمحافِظة على استقرارها واستمرارها، والعراق يعيش اليوم في براثن الطائفية، والإبادة المتبادلة، وانسداد الآفاق.. والحقيقة أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل  وُلِدَ من أحشاء ما حصل في العراق، التطرف بكل أشكاله وتعبيراته، وامتد إلى دول الجوار، وسمعت أصداؤه في أكثر من عاصمة في العالم.. إننا في المحصلة نعيش تبعات تفكير غربي، يدّعي العقلانية والحداثة في علاقته بذاته، لكن حين يرتبط الأمر بـ”الآخر”، يصبح كائنا متوحشا لا قيم له ولا مرجعيات.. فما حصل في العراق امتد إلى سوريا، والحلقة ما انفكت تتوالى وتكتمل لتطال دولا عربية كثيرة، ولا يُعرف على وجه اليقين أين ستتوقف بالضبط.

التعليقات مغلقة.