قصة بائع جوال جاء من طانطان ليبيع قهوة مراكش في موسم مولاي عبد الله!!

 

قصة بائع جوال
جاء من طانطان ليبيع قهوة مراكش في موسم مولاي عبد الله!!
نورس البريجة: خالد الخضري
في جزئين (الجزء 1)
1 – من الجزارة إلى بيع القهوة والسجائر
إن موسم مولاي عبد الله ليس مجرد مهرجان شعبي سنوي تحتفل به عاصمة دكالة وإقليمها، ويحج إليه آلاف الزوار والسياح من مختلف ربوع المملكة للتمتع بكثير من مظاهره الفرجوية والرياضية الشعبية على رأسها لعبة الفروسية (التبوريدة) والصيد بالطير الحر الذي عرفت به بالخصوص قبيلة القواسم بمنطقة حد اولاد فرج ..كما السهرات الفنية الليلة المفتوحة.. إضافة إلى بعض الأنشطة الدينية… ولكنه أيضا سوق تجاري كبير لمختلف البضائع والمواد الغذائية التي يتاجر فيه تجار مستقرون في خيماتهم أو باعة متجولون بأصناف عدة من لعب الأطفال ومأكولات خفيفة ومشروبات…
من هذا الصنف الأخير، شاب طويل كان يمر أمام خيمتي الشاطئية يوميا في الموسم، فكانت رائحة بضاعته تسبقه معلنة عن قهوة متبّلة بعدد من الأعشاب.. وزيادة على سمرته الطبيعية ، أكسبته حرارة غشت سمرة مضاعفة إلى أن غذت بشرته داكنة. كان الجهد والإملاق باديا على محياه وهو يحمل بيده اليمنى مقراش قهوة متبث بأسلاك على فرن حديدي ملئ بالفحم المشتعل.. وفي اليسرى سطلا به أكواب بلاستيكية.. سكر مطحون (سنيدة).. علب سجائر وأشياء أخرى لا تعمل إلا على زيادة وزن السطل وإرهاق كاهل حامله والطواف به طوال اليوم تحت الشمس الحارقة كما في الليل.
الساعة تشير إلى منتصف النهار وبضع دقائق حيث تكبدت الشمس السماء مرسلة شواظا لاذعا كان البشر من كلا الجنسين ومن مختلف الأعمار، كما الخيول يفرون منه لغطس أجسادهم – وكيفما اتفق – في البحر.. إلا بائع القهوة الذي تسمر في مكانه والحسرة بادية عليه، يرقب منظر الجياد وهي تسبح جنب بني آدم، حيث الكل ينعم ببرودة الماء .. لم يعد ينادي على بضاعته.. وإنما التفت يمينا وشمالا كأنه يختبئ من أحد.. ثم هوى بكامل طوله فوق الرمل.. تربّع واضعا مقراش القهوة على بعد خطوات بينه وبين البحر.. والسطل بجانبه.
وبعد لحظات مد يده إليه.. أخرج علبة سجائر مفتوحة.. تناول واحدة منها.. وضعها بين شفتين رقيقتين فحّمهما الإفراط في التدخين كما نفْخه اليومي على الفحم ليشتعل في الفرن الحديدي الذي يطبخ ويلصق عليه مقراش القهوة.. ثم زحف قليلا على ركبتيه إلى أن وصل إلى الفرن حيث سحب السيجارة من فمه ودسها في الجمر الذي بدا أن لهيبه خبا.. فنفخ عليه بفمه حتى تطاير الرماد على وجهه.. لكنه لم يمسحه ولا تراجع عن الفرن حتى اشتعلت ذؤابة السيجارة.. حينئذ انسحب عائدا إلى مكانه للاستفادة من استراحته محارب أنزل سلاحه بجنبه دون أن يزيح بصره عنه.. وشرع يعب الدخان ملء رئتيه لا يقطع عليه استراحته وتأمله سوى قلة من الزبائن تقتني أكواب قهوة.. وكثرة منها تشتري سجائر !
أثر في منظر هذا الشاب فقررت أن أنضم إليه للدردشة، بدعوى ابتياع فنجان قهوة رغم يقيني بعدم شربها لأن جل الباعة المتجولين لهذه المادة المنعشة يكثرون فيها السكر بشكل مقرف.. فكانت بالفعل جلسة حميمية امحى فيها الفارق بين صحفي وبائع جوال ليغذوا مجرد زائرين لموسم مولاي عبد الله ومصطافين في أحد شطآنه الصغيرة التي يستحم فيه البشر إلى جانب الخيول بشكل هارموني.. فألقى الأول بضعة أسئلة أجاب عليها الثاني بعفوية وبمرارة أيضا ودون أن تغادر الابتسامة شفتيه الرقيقتين.. لكن قبل ذلك أعترف أنني احتسيت قهوته بانتشاء لسبب بسيط هو أنه – وبعكس الأغلبية الساحقة من زملائه – لم يكثر فيها السكر.. فرد بلباقة على هذه الملاحظة:
– شوف نعام سيدي.. القهوة إذا كان ينقصها سكر نضيف لمن أراد، فها الخير موجود (وأراني كيس السكر المطحون بالسطل) أما إذا كانت كثيرة الحلاوة، فلا يمكن نقص أو حذف هذا “السم الأبيض” والأذواق تختلف سيدي..
قال هذا وضحك وهو يرمي بعقب سيجارته في ماء البحر وكأنه يتخلص من سم مشتعل.. مما نم على أن الشاب على قدر لا بأس به من التعليم والوعي ( مستوى السادس ابتدائي).
ثم تركته يتحدث مقدما نفسه ووضعه الاجتماعي كما (التجاري) في هذا الموسم “الغول” على حد تعبيره.. فهو: عبد الكبير ذبذبيح (28 سنة).. قدم من مدينة طانطان.. حرفته الأصلي جزار.. متزوج وله طفلة عمرها 3سنوات.. سمع كثيرا عن هذا لموسم وعن نوعية البضائع التي يمكن التنقل بها لبيعها والتي تلقى إقبالا لا بأس به.. فقيل له جميع المأكولات والمشروبات الخفيفة لاسيما القهوة لأنها تباع في مختلف أوقات اليوم لا سيما ليلا للساهرين ومن يقبلون على السهرات الفنية أو على (الحلاقي) بملعب الخيل (المحْرك) الذي يتحول – بمجرد نزول آخر خيّال أو فارس عن فرسه – إلى مسرح هواء طلق يعج بكثير من المهرجين والحكواتية والمشعوذين والدجالين.. ومروضي القرود والأفاعي وحتى الحمير.. وأصحاب القمار بأنواعه… كما يقتني القهوة بوفرة أولئك الذين يفضلون السكون مثلي، والانزواء بعيدا عن هرج كل من وما ذكر ويركنون أمام خيماتهم «مقابْلين البحر ليرحلْ « !فيحتاجون لفنجان قهوة من هذا القبيل متى لم يكن لديهم مشروب بديل يمنح للمشهد ذوقا آخر…
**************************************************************
(يتبع)

التعليقات مغلقة.