بقلم “عبد الواحد المالكي”…هل أتاك حديث المقاطعة ؟

ٱش واقع

لعل المقاطعة التي تعتبر ابتكارا و إبداعا صرفا من صنع الشعب المغربي، جاءت كرد فعل عن ارتفاع صاروخي في أسعار بعض المواد الضرورية و التي تدخل في الاستهلاك اليومي بوتيرة مختلفة لدى المغاربة من طنجة إلى الكويرة.

و ما يلفت الإنتباه و يثير الدهشة في بعديها الفلسفي و السوسيولوجي ،هو كيف استطاع الشعب المغربي في ظرف قياسي الاتفاق من أجل شجب الوضع الذي آلت إليه أثمان الحليب ،الماء و المحروقات .؟

إن حملة المقاطعة هذه تجسد بالملموس مدى تضامن أفراد المجتمع ضد الأخطار التي تهددهم في واقعهم المعيش، و هذا الوضع يؤكد لنا على الأقل فكرة التضامن لدى أفراد المجتمع في بعديها الآلي و العضوي حسب المنظور الدوركايمي.

لقد استغل رواد مواقع التواصل الإجتماعي،سواء منهم أولئك الذين تواجدوا خارج أرض الوطن أو داخله و بذلوا كل ما استطاعوا من قوة في الإقناع و التعبير ليفصحوا و يفضحوا ما خفي عن عامة الشعب.

إن استجابة الشعب قاطبة لنداء المقاطعة أدهشت و أربكت بعض المسؤولين في الحكومة المغربية الحالية و حيرت الفاعلين السياسيين.

في زمن فقد فيه المواطن المغربي الثقة في الإعلام الوطني الرسمي ،نظرا لكونه يجده إما متحيزا في نقل الحقائق كما هي أو متحفظا أحيانا بخصوص تناول مواضيع اجتماعية معينة كظواهر الإقصاء أو التهميش أو الفقر التي تطال فئات عريضة من المجتمع المغربي سواء إن تعلق الأمر بالبادية أو المدينة.

كان لا بد لشعب يرنو إلى التغيير و يطمح إلى التقدم و التنمية في بعدها المستدام،من السعي إلى إيجاد بدائل جديدة و كذا البحث عن حلول ملائمة للوضع الذي يعيشه.

إن مقاطعة الشعب المغربي و امتناعه عن استهلاك مواد معينة يمكن قراءتها من عدة أبعاد.
أولا يمكن أن نتكلم على البعد الاجتماعي ،الذي يعكس التفاف أفراد المجتمع حول فكرة واحدة ،و تضامنهم على تحقيق أهدافهم المتمثلة في التنمية المستدامة يسودها الرخاء و سهولة العيش من خلال فعل المقاطعة.
كما يمكن أن نستشف كذلك البعد السياسي الكامن و الخفي للمقاطعة ،و المتجسد في التأثير على مسار السياسات العمومية و الوتيرة الإنتاجية للشركات الخاصة ،كما سنجد أن فعل المقاطعة قد نال حظه من تفاعل حكومي خلف الكثير من الجدل عبر مختلف وسائط الإعلام

هذا و دون أن نغفل أن المقاطعة أفرزت لنا ثقافة خاصة ،حتى و إن جاز وصفها بالثورة الفتية الظرفية و الآنية،كونها ارتبطت بحدث اجتماعي معين .لكن ثمة أفكار تروج في أذهان المقاطعين ، و ردود أفعال متباينة تصدر بين الفينة و الأخرى ،من طرف أعضاء مجتمع متحول،اختار العصيان و التمرد على واقعه بدل الاستسلام و الرضوخ للهيب الأسعار الجديدة التي ترأسها الحليب.
يمكن أن نقول أن الشعب المغربي ،دخل في عمق القضية في حرب سيكولوجية وجها لوجه في البداية مع ثالوث اقتصادي عنيد.
إن القراءة السيكولوجية الاجتماعية و السياسية للمقاطعة تبين لنا كيف استطاع المقاطعون التأثير على ذهنيات أرباب الشركات بدفعهم إلى الدخول في مفاوضة غير معلنة لإيقاف المقاطعة المزعجة،و ذلك بعد استعلائهم و استخفافهم بمطالب الشعب المتمثلة في الحصول على منتجات بأثمنة مناسبة تراعي قدراتهم الشرائية.

لقد استطاع المواطنون المغاربة أن يمثلوا دور البروليتاريا عند مواجهتهم الطبقة البورجوازية التي تملك الثروة و وسائل الإنتاج و التي تستغل جهود و قوة الطبقة العاملة و تشعرهم بالاغتراب بمختلف أنواعه في حياتهم من أجل تكديس ثروتها. إذ نجد الفرق بين التحليل الذي ذهب إليه ماركس و وضع المقاطعة المغربية هو أن الصراع قائم بين الفئة المستهلكة و الشركات المنتجة.
إن الأجواء التي تمر فيها المقاطعة ،تجعلنا نتأمل دائما كملاحظين اجتماعيين ،كيف استطاع المغربي التأثير على الشركات التي أدخل منتجاتها في باب المحظورات المؤقتة؟
ثم كيف أصبح المواطن المغربي مالكا لجزء من السلطة و فاعلا بعد ما كان مفعولا به،خاضعا،خانعا مقموعا؟.
لقد أفرزت حملة المقاطعة معجما مفاهيميا كبيرا يجسد بطريقة أو بأخرى سيكولوجية شعب يرفض الانبطاح و الاستسلام في وجه شركات عملاقة ، و ما الشعارات التالية إلا دليل قاطع على الشجب :
خليه يريب- مازوطكم حرقوه-خليه يغني بوحدو -المقاطعة ثقافة شعب-المقاطعة نمط عيش-مقاطعون حتى آخر نفس.

لكن السؤال المطروح بعد الذي آلت إليه الأوضاع من تشنج و ردود الأفعال المتباينة بين أرباب الشركات و فئة عريضة من نشطاء التواصل الإجتماعي.
ماذا لو التزم كل طرف بحقه و رفض التنازل و الاستسلام للآخر ؟
ماذا لو دخلت شركات أخرى على الخط و حاولت أن تستغل الوضع و تشكيل القوة الضاغطة ،لتجسد ديكتاتورية اقتصادية على الشعب حتى يستسلم جبرا و قهرا.؟
ثم ماذا كذلك لو رفع الشعب المغربي من سقف غضبه الاجتماعي و اختار دخول مغامرات جديدة في مسلسل المقاطعة ؟
من سيستفيد في الأخير من هذا الصراع؟
كما يقول أنصار الفكر الصراعي :الصراع يخلق ثقافة جديدة.
لكن في الكواليس خلف الستار ،فالصراع يتطلب نفسا طويلا و نضالا ممنهجا و موجها مبنيا على استراتيجيات و أهداف واضحة المعالم .

إن ما يحدث في المغرب من تشنج و احتقان بين المستهلكين الذين يلعبون دورا كبيرا في تحريك الاقتصاد الوطني و بين الشركات التي تساهم هي الأخرى في تحريك الدورة الإقتصادية بالمغرب،كما تلعب دورا متميزا في خلق مناصب الشغل و توفير الخدمات و المنتجات الضرورية للاستهلاك.
و يمكن ترجمة هذا الواقع من ناحيتين مختلفتين:
الناحية الأولى:المقاطعة أبانت عن ارتباك إدارات الشركات المعرضة إلى المقاطعة على مستوى تشخيص الواقع الاجتماعي المغربي، و بالتالي العمل على ملاءمة الأثمنة مع القدرة الشرائية للمغاربة.
من الناحية الثانية:
الأشكال الاحتجاجية الأخيرة التي خاضها الشعب المغربي ،تبين تراجعا كبيرا في مجال الحريات التي يكفلها الدستور،بالإضافة إلى أدوار الأحزاب السياسية و جمعيات المجتمع المدني الخافتة بخصوص احتواء لمقاطعة و محاولة لعب دور الوسيط من أجل المساهمة في إنجاح الحوار الاجتماعي.
إن الأحزاب و النقابات و الجمعيات و المراصد الحقوقية وجب أن تكون صلة وصل بين المواطن و الشركات و الحكومة كذلك لتساهم بدورها في حل الأزمات الاجتماعية و الاقتصادية .
فما وقع بالضبط خلال حملة المقاطعة هو أن المواطن المغربي أحس بالاغتراب و شعر بنوع من المآمرة ضده من طرف الإعلام و الشركات فاختار التغريد بطريقته الخاصة و بأسلوبه بعيدا في كثير من الأحايين عن الواقع ،متخذا من الفضاء الافتراضي وسيلة لتفريغ غضبه و همومه عازما كل العزم على إيصال صوته و خطابه بأية طريقة كانت همه الوحيد هو التخفيض من الأسعار أو الحد من ارتفاعها العشوائي.

لم تأت تعبئة الشعب المغربي هاته ضد الارتفاع المفاجئ لأسعار بعض المواد الموجهة للاستهلاك، من فراغ، بل جاءت نتيجة للمضايقات التي عرفتها مختلف أشكال احتجاجات بعض المواطنين في الشارع و كما يقال الحاجة أم الاختراع ، و الغاية تبرر الوسيلة.
و بما أن الإنسان أنثروبولوجيا كائن بيوثقافي،قادر على التفكير و الخلق و الابداع و التفاعل.
فإن المواطن المغربي استطاع مراوغة القوانين التي تمنعه من الاحتجاج السلمي على أرض الواقع ،لذلك نجده لجأ إلى وسائل تكنولوجية رقمية أكثر تأثيرا و انتشارا.
مهما كان الحال فتجربة المقاطعة ،تعكس لنا بجلاء، و بعيدا عن الانغلاق و التمركز حول الذات و النظرة السلطوية للأشياء. كيف استطاع الشعب التعبير هذه المرة بحرية و جرأة، و هذه الحرية وجب تشجيعها على الواقع طالما أنها كانت سلمية و قانونية،مثلما نجد الدول المتقدمة التي سلكت أشواطا كبيرا في مجال النهوض بالتنمية الثقافية و السياسية لشعوبها،كونها اعترفت للإنسان من زمان بحريته و حقوقه في إطار ما تنص عليه الاتفاقيات الدولية و الدساتير في هذا المجال.

من دون شك،القمع و الضغط لا يمكن أن يولد إلا الانفجار،يخلق مشاعر اليأس و الحقد في نفوس البشر و يساهم في تأزيم الوضع بدل إيجاد الحلول.
إن التنمية لا تعني ترك الحرية لدى الشركات لتحدد أسعار منتوجاتها حسب رغبتها دون رقيب و لا حسيب ،بل لا بد على الدولة من أن تتدخل بطريقة أو بأخرى لحماية المستهلك من الهلاك،لأنه أرهقته النفقات المتنوعة في الحياة الاجتماعية و التي تتمثل في الضرائب و فواتير استهلاك الماء و الكهرباء ،بالإضافة إلى باقي الصوائر التي تمتص راتبه الشهري،هذا إن كان له راتب معين، إن لم نجده من ذوي الدخل الضعيف أو عاطل عن العمل، يصنف ضمن الفئة الهشة أو الفقيرة التي توجد تحت خط الفقر.

التعليقات مغلقة.