الإرهاب وباء عصرنا

 

يتحدث المؤرخون عن الأوبئة وصور الفتك الذي تمارسه على الإنسان، عندما تجتاح الجماعات والمجتمعات في التاريخ. ويتم، في الأغلب الأعم، التعبير عن صعوبات ضبط أسبابها، وأشكال الفواجع الناتجة عنها. ويبدو لي أن الإرهاب، في صوره العديدة التي تجتاح، اليوم، بشكل متواتر، أغلب المجتمعات البشرية، في الجنوب والشمال، وفي الشرق والغرب، يمتلك مواصفاتٍ كثيرة تجعله قريباً من الأوبئة التي عرفها تاريخ الإنسانية.

ربطت بين الإرهاب والوباء، عندما تابعت ما وقع في يوم واحد في أحد الفنادق في سوسة في تونس، وما حصل في مسجد في الكويت ومصنع للغاز في مدينة ليون في فرنسا، وما يتواصل اليوم هنا وهناك، في العراق وسورية وفلسطين والجزائر، من وقائع مماثلة وتهديدات ممهّدة لأحداث إرهابية أخرى يجري الإعداد لها. وقد انتبهت إلى أن وباء الإرهاب يزداد استفحالاً، وهو يضعنا أمام أُمَمِيَّة جهادية، تروم تعميمه في العالم.

لا يتعلق الأمر بظاهرة جديدة، وما يقع اليوم لا يشير فقط إلى تنظيمات القاعدة وداعش وبوكو حرام وغيرها من التنظيمات التي تتناسل في مواقع عديدة، وبأسماء لا حصر لها. الجديد في الصور التي تتَّخذ الظاهرة اليوم، يتمثَّل في نمط التدبير الذي يصنع ملامحها ومراميها في عالمٍ، يزداد فيه الصراع حدَّة بين مختلف مكوناته، عالم يضع الخطوط الكبرى، لنوع من الحروب المختلفة عن حروب النصف الأول من القرن العشرين.

لا نعرف المصادر الفعلية للأحداث الإرهابية، على الرغم من وعينا بسياقاتها وشروطها العامة، وتقديرنا العام طبيعة الأطراف والجهات التي تقف فيها، إما في الصفوف الأمامية أو في المواقع الخلفية، أو تحتل الموقعين معاً. وعندما تَصْدُرُ بيانات عن تنظيمات معينة تُعلِن تبنِّيها ما حصل، فإن صدور هذه البيانات يزيد الأمر في تصوُّرِنا غموضاً، بحكم أنه يندرج في إطار معارك أخرى، فنصبح أمام معادلات مركَّبة ومعقَّدة.

تقربنا البيانات التي تعلن تبنِّيها الحدث الإرهابي، والتي تصدرها، في الأغلب الأعم، مجموعة من التنظيمات السلفية والجهادية، من جوانب عامة من الموجهات الكبرى للجهات التي تعترف بأنها وراء ما حدث، فندرك أنها تنتظم تحت جامع أكبر، يتمثَّل في معاداتها مجتمعة كل ما يجري في العالم بروح ظلامية. ولهذا، تضرب بطريقة عمياء، متوخية إصابة أهداف محدَّدة.

ومن المؤكد، اليوم، أن أنماط العمليات الإرهابية الحاصلة في السنوات الأخيرة تظهر أننا أمام مجموعات محترفة، تبحث لنفسها عن موقع سياسي، وهي تستعمل، اليوم، من أجل ذلك أغطية السلفية الجهادية، بهدف اقتناص مرامي وغايات سياسية. فما أكثر الأبحاث والتقارير التي ربطت بين مكونات داعش وبقايا البعثيين في العراق، وأضافت إليهم بقايا مليشيات معمر القذافي، ومن دون إغفال أدوار النظام السوري في إسناد تحرُّكات داعش لخلط الأوراق ونشر الفزع والرعب والفوضى، إضافة إلى أدوار القوى الإقليمية والدولية الأخرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وكل من له مصلحة في المشرق العربي، فنصبح أمام صورة يصعب الاتفاق على ملامحها ومعطياتها. أما الإسلام الذي يوظّف تحت لافتة دولة الخلافة الإسلامية فيظل، في نظرنا، مجرد غطاء يستعمل للتمويه والخداع.
تلجأ الجماعات الإرهابية إلى توظيف صور معيَّنة عن إسلام متخيل، يبرز ذلك في ممارستها كما في الأحزاب ذات المرجعيات الدينية، حيث نتبيَّن فيهما معاً كثيراً من صُوَر الفقر الفكري الذي يُعَدُّ خاصية ملازمة لتيارات الإسلام الجهادي، وصِنْوِه الإسلام السياسي، والتنظيمان معاً يجمعهما العامل السياسي، وهما يحاولان تركيب مزيج من المعتقدات، يختلط فيه الحلم بالواقع وبالتاريخ.

لا يمكننا أن نتحدث عن هذه التنظيمات بوضوح وثقة، فهي تمتلك علاقات براغماتية مع عدة توجُّهات سياسية، قصد تحقيق الاستمرار، والتمكُّن من الانتشار والتوسُّع. فنحن أمام مجموعات لا تتردَّد في العمل مع جهات وأطراف متناقضة، الأمر الذي يضاعف من أهوالها، ومن صور الخراب المادي والمعنوي الذي تنشره في الجهات التي تصوب الأفعال الإرهابية نحوها.

نستطيع القول إن وباء الإرهاب والتنظيمات التي تقف وراءه يتَّسم باندفاعه الأعمى، كما يتَّسم بمكره، حيث يعمل تنظيم داعش على استقطاب أشخاص من جنسيات مختلفة، ومن أعمار مختلفة، ومن فئات اجتماعية متنوعة، وهم يتحركون، اليوم، ويُفَجِّرُون ويذبحون، ويصنعون الحدث والصورة والموقع والموقف. إنهم يستخدمون لغة معيَّنة، ويُشيرون إلى تنظيمات وقيم محدَّدة، ويتجهون إلى تعميم معطيات تروم الإقناع بنموذج في الحياة، متطرِّف ومُخيف، مُعَادٍ لكل مكاسب العقل والتاريخ والمعرفة.

عبد اللطيف كمال

التعليقات مغلقة.