من اجل اللغة العربية وبها

من اجل اللغة العربية وبها

عبد النبي عيدودي

ماذا بقي من اللغة العربية اليوم؟ هذا هو السؤال الذي يواجه الباحث في هذا الموضوع، وما هو حالها اليوم بين مصاف اللغات الحية الأخرى؟ ولماذا هذا الهجوم الشرس على اللغة العربية دون غيرها من اللغات؟ هل لضعفها المعجمي النحوي الصرفي، وفقر أسلوبها البلاغي الوصفي التعبيري؟ أم لأنها لغة القرآن؟ وبها يتمكن الباحث المسلم وغير المسلم من فهم معاني القرآن وشرح أساليبه الدلالية والمقاصدية؟ أم لأنها تستطيع تأويل النص القرآني على أكثر من وجه، كالتأويل الظاهري للنص والذي يقود في بعض التأويلات الخاطئة من طرف البعض إلى التشدد والغلو في تطبيق الأحكام القرآنية، أو تأويل باطني يقود البعض إلى التأويل الصوفي الأكثر توكلا وتقاعسا عن أعمال الحياة اليومية؟ وبين هذين التأويلين توجد تأويلات متعددة ومختلفة، لأن القرآن حمال أوجه كما يقول البعض…

لكن من يهاجم اللغة العربية بغية القضاء على التأويل المتشدد للنص القرآني أو الحديث النبوي باعتبار اللغة العربية أداة ووسيلة لفهم النصين القرآن والنبوي.. عليه أن يستحضر دور هذا اللغة في تثبيث شرعية الحكم الدينية في أوساط المسلمين المؤمنين بالمنهج الوسطي المعتدل في التأويل اللغوي للنصوص القرآنية المؤطرة للبيعة الشرعية ولإمارة المؤمنين بالخصوص. فمن يستهدف اللغة العربية بالإقصاء فهو يستهدف عقيدة أزيد من مليار مسلم عامة.. ويستهدف نظام البيعة داخل الفكر السياسي الإسلامي بالدرجة الثانية.

بعد هذه المقدمة يحق لي أن أتساءل، لماذا لم أقل من أجل اللغة الفرنسية وبها؟ أترك ذلك للفرنسي، أما أنا فجزء من ذاتي وهويتي المغربية يدفعني لأقول من أجل اللغة العربية وبها، وتناولي للموضوع سيكون بكيفية إستراتيجيه أي لابد من النظر إلى اللغة العربية في شموليتها وفي تاريخها العريق وحاضرها المرتبك ثم استشراف المستقبل لها.

تضطلع اللغة بأدوار متعددة، ويمكن تناولها من زوايا مختلفة، أولها: أن اللغة توجد من أجل التعبير، والتعبير مسألة نفسية، لهذا لا نستغرب أن جميع كتب علم النفس تحتوي على فصل يخصص للبحث في مسألة اللغة، فإذا لم يجد الإنسان اللغة فما عساه يفعل بانفعالاته وصراعاته مع الأخر؟ وثانيها: أن للغة دور اجتماعي، حيث لا يمكن تصور مجتمع بدون لغة، فهي مكون أساسي له. وثالثها: للغة دور تواصلي وإعلامي، ورابعها: اللغة هي كل ما يمكن أن نعبر به على الإبداع الفكري والثقافي، إذ لا وجود لمجتمع إلا بالإبداع الفكري والثقافي، ولا إبداع ولا فكر ولا ثقافة إلا باللغة، وهو ما يجعلنا نعتبر أن اللغة مؤسسة للهوية، وكل هوية تعرف بلغتها، فهي محدد أساسي للهوية، ولهذا تتنوع مكونات بلد ما، إلا أن اللغة تشكل عنصرا جامعا له، وجميع العلوم تناولت اللغة في فصل من فصولها، كما أن اللغة العربية نفسها لم تخل من هذا التناول داخل العلوم بمختلف ميادينها. فما عسانا نفعل بها؟ أي ماذا نريد بهذه اللغة؟

هذا هو السؤال الذي يهم المغرب اليوم – بعد تناول اللغة الدارجة كبديل من طرف البعض – وبلدان أخرى تشترك معنا في هذه اللغة، وهي ليست البلاد العربية فحسب، لأن العربية مع مجيء الإسلام أصبحت لغة المسلمين باختلاف أجناسهم ولهجاتهم، وليست للعرب وحدهم، لهذا فمن يوجه النقد للغة العربية، فإنه لا يقصد العرب وحدهم، لأن العرب جزء من كيان كبير هو الإسلام، فمن ينتقدها أو يتهجم عليها فإنما ينتقد ويتهجم على المسلمين أجمعين وليس على العرب فقط. وعندما نقول بها يفرض علينا أن نتخيل أنفسنا بعد ثلاثين أو أربعين سنة، ماذا نريد أن يكون عليه الأمر بالنسبة للغة العربية؟

أما اللغة العربية اليوم فهي في حاجة ماسة إلى إستراتيجية مزدوجة، إستراتيجية تعمل من أجل اللغة العربية حتى نتمكن من العمل بها، ولكي يتسنى لنا أن نشتغل باللغة العربية يجب أن نشتغل لها، وعندما قلت من أجل اللغة العربية أي لابد من التراجع خطوة إلى الوراء من أجل إشباع حاجتنا بسياسة تقوية اللغة العربية حتى تعطينا قوة الناطق بها، فاللغة العربية لغة مئات الملايين من الناس، وهي لغة الحضارة والتاريخ، وقد اختلف الدارسون في تسميتهم فمرة يسمون بالحضارة العربية وأخرى بالحضارة الإسلامية ورجحوا الحضارة العربية الإسلامية، والمساهمون في هذه الحضارة لم يكونوا عربا فقط فهذا ابن سينا والخوارزمي، وذاك الفارابي والبخاري، وغيرهم كثير ممن كتبوا التراث الإسلامي باللغة العربية ولم يكونوا عربا، لهذا فإلغاء اللغة العربية هو إلغاء لكل هذا التراث الإنساني، لهذا أنا أؤيد من يقول بأن الحضارة كانت إسلامية ولغتها عربية.

ماذا نفعل من أجلها؟ وماذا نفعل بها؟ للإجابة أتساءل: ما هي اللغة العربية الآن؟ وما هي عليه لغتنا في تراتب اللغات؟ الجواب معروف، فمكانتها اليوم ليست هي وبالأمس وقوتها اليوم ليست كالتي كانت بالأمس وأعني بالأمس الماضي وليس القريب، أما بخصوص معايير ترتيب اللغات، فتتمثل في ستة معايير مترابطة.

المعيار الأول: كم الإنتاج المتوفر لكل لغة في مجالات العلوم والفكر والإبداع؟

المعيار الثاني: قيمة هذا الإنتاج من الناحية الفكرية، وهل يساهم في تطوير العلوم؟

المعيار الثالث: شيوع الترجمة إلى كل لغة ومنها.

المعيار الرابع: كفاية كل لغة من الناحية المصطلحية لاستيعاب جميع التطورات العلمية والتقنية.

المعيار الخامس: توفر القواميس التي تجعل الدراسات موازية لوجود اللغة وتطورها.

المعيار السادس: كفاية كل لغة في أداء الدور التكويني في جميع مجالات الفكر والإبداع والثقافة.

لكن ينبغي أن نتجرد من حبنا للغة العربية أثناء التساؤل عن وضعيتها خدمة لها، فهناك لغة نتحدث بها اليوم تختلف عن لغة الماضي، حيث أضيفت لها أسماء بعضها عربي وبعضها جاء إثر التطور، لكن عندما نفتح القواميس العربية لا نجدها تحتوي على عدد كبير من المفردات المتداولة اليوم، بحيث أصبحت المسافة كبيرة بين المتكلم والقاموس، فكيف نريد لها أن تكون في مرتبة جيدة بين اللغات. وكذلك إنتاج اللغة العربية العلمي والثقافي والفكري والذي من المفترض أن يقويها ويجعلها في مرتبة جيدة بين اللغات، لكن إذا تساءلنا كم هو الإنتاج العربي في علم النفس أو علم الاجتماع أو الأدب شعرا ونثرا.. أو غيرها من العلوم مقارنة مع إنتاج اللغات المرتبة ترتيبا عاليا. أكيد أن الجواب سيكون مخجلا.

ونفس الشيء بالنسبة للترجمة إليها ولها، فمن أجلها ينبغي أن نترجم منها واليها، أي ينبغي أن ننقل إلى أنفسنا التفكير الكوني لنرقى بلغتنا إلى كل ما هو كوني، وغياب هذا النقل هو سبب وجود التطرف، فاقتصار المسلم بالرؤية الوحيدة وعدم انفتاح عقله على التجارب الإنسانية الأخرى يجعل تفكيره يتجه نحو التطرف، فماذا تفعل سفاراتنا ومراكزها الثقافية بالخارج إذا لم تؤد هذه الخدمة للغة العربية؟ كما أن للغة العربية دورا تكوينيا للعقل ليكون عقلا مفكرا ومنتجا، وهذا التكوين لا يكون جذريا وحقيقيا ومسعفا للعقل على أن يتطور إلا إذا كان باللغة الأصلية (اللغة الأم).

وأخيرا ماذا سنفعل بها؟ أعتبر أن كل المجتمعات الغربية والأسيوية والإفريقية والأمريكية في حاجة لها، وتقوية اللغة العربية في هذه الفضاءات ضروري – باعتبارها في حاجة إليها- فإذا قويناها بمعايير اللغة المذكورة أصبحت قوة لنا في وجودنا وفي الدفاع عن خصوصياتنا الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية والحقوقية

التعليقات مغلقة.