الطفلة مريم أمجون : أيقونة تحدي القراءة العربي تلقن درسا قاسيا لمنتقصي لغة الضاد والحس الوطني.

أش واقع – تحرير : ذ. خديجة بنهنية

لا أحد يجرؤ على المجادلة في ذكاء وفطنة وشطارة المغاربة، وجنوحهم إلى السلم والسلام وحقن الدماء ساعات الحروب والمشاحنات، وإيمانهم ورضاهم بقضاء الله وقدره خيره وشره، وقناعتم بالقليل، وكرمهم وحسن استقبالهم للضيف عامة، وللأجنبي خاصة مهما كانت لغته وعرقه وجنسه، علاوة على وسطيتهم الدينية السنية الأشعرية المالكية، وتمازج وانصهار ثقافتهم ولهجاتهم الوطنية.

إن الوافد على المملكة المغربية لأول وهلة يلاحظ تنوع الموروث الثقافي، واختلاف العادات والتقاليد على مستوى الجهات الإثني عشر لمجموع البلاد، لكن سرعان ما يتكون لديه انطباع قوة التلاحم والاندماج والاتحاد الذي يتماسك صلبا ومرنا في آن واحد في بوثقة موحدة، تعود إلى 12 قرنا خلت، وتستمد مرجعيتها من الدستور المغربي ومن الشريعة الإسلامية.

فرغم تسونامي حراك الربيع العربي، وفعلته الرهيبة في العصف بالاستقرار والأمن القومي لدول عربية تهاوت متلاحقة كما تتساقط أوراق الخريف، وهروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى السعودية، وإرغام الشعب المصري رئيس الجمهورية حسني مبارك على التنحي على كرسي الحكم وإحالته ونجليه على القضاء، وثورة الشعب الليبي على قائده الأرعن صاحب الكتاب الأخضر والثورة الليبية الزعيم معمر القدافي، وإقدام الثوار على قتله والتنكيل بجثته، وحمام الدم الذي لا تزال تشهده سوريا من قتل وتشريد وتهجير للشعب السوري الذي نادى يوما بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسدإعادة نفس السيناريو بأسلوب مغاير مع تصفية الرئيس اليمني عبد الله صالح على يد الحوثيين، وكذا قمع الحراك ببقية الدول العربية التي استشرت فيها الاحتجاجات الجماهيرية، فإننا نجد أن النظام المغربي الذي باشر عمليات الإصلاح منذ مطلع الألفية الثالثة، خرج من عنق الزجاجة سالما بعدما سبق له أن استشرف الآفاق و قام بإجراء تعديلات دستورية فورية تتماشى مع مطالب وانتظارات المغاربة، وهو ما تضمنته نسخة 2011.

يكاد يجمع متتبعو تاريخ المملكة أن هجرة المغاربة خلال القرن العشرين وبداية القرن الثالث إلى خارج البلاد مرت بعدة مراحل، همت أولها أصحاب السواعد القوية والعضلات المفتولة للعمل في المصانع والمناجم والمزارع وورشات تهيئة البنيات التحتية لفرنسا التي دمرتها الحرب العالمية الأولى والثانية، كما جيشت الآلاف منهم للدفاع العسكري عن مصالحها داخل ترابها الجمهوري وخارجه، سواء خلال الحربين العالميتين، أو خلال الحرب الهندية الصينية. ناهيك عن تجنيد فرانكو لمثل هذه العناصر البشرية من جنسية مغربية لنفس الغرض وكذا لتطويع المعارضة الإسبانية الكاتالونية.

لكن بعد استقلال المغرب سنة 1956 ، تميز مطلع الثمانينيات من القرن الماضي بتنافس القطبين الرأسمالي والاشتراكي على التحكم في دول العالم، واستعار نار الحرب الباردة بين القوتين العظمتين، وظهور قوى صاعدة كاليابان والصين والهند والكوريتين، حيث عرفت الهجرة المغربية نوعا آخر هذه المرة من المهاجرين، ويتعلق الأمر ببعض المطربين وممتهني الموسيقى و الغناء والرقص وفرق الفلكلور و شيخات العيطة و ” هز يا وز”، لخلق الفرجة وتزجية أوقات عطل نهاية الأسبوع بالكازينوهات والملاهي الليلية الأوربية والأمريكية والشرق أوسطية، والعمل في مجالات الحلاقة والفندقة والمطعمة بدول الخليج العربي وبلدان البيترو – دولار…، أو بالانخراط في بعض شبكات المافيا العالمية والتجارة في المخدرات القوية منها والصلبة.

صنف ثالث من الهجرة يظهر بعد تسعينيات الألفية الثانية وبداية الثالثة وصولا إلى حدود اليوم، نحو بلدان أوروبا وأمريكا وبقية دول العالم، ويتعلق الأمر هذه المرة بهجرة الأدمغة من العلماء و الأكاديميين وحاملي الشهادات العليا والأطر والمثقفين بحثا عن حياة أفضل سواء للتدريس في الجامعات والمعاهد والمدارس، أو للعمل كمهندسين وكتقنيين في المعامل، أو أطباء وبيولوجيين وصيادلة في المستشفيات والمختبرات الخ … واختصارا كفاعلين في صناعة التنمية بالبلدان المستقبلة لهم، والنهوض بحقلها المعرفي حيث الإمكانيات متاحة وظروف العمل متوفرة وشروط البحث العلمي متطور وسريع ومتجدد على مدار الساعة.

كما كان للمستثمرين المغاربة حظ لا يستهان به في الهجرة نحو الخارج وخصوصا صوب دول افريقيا جنوب الصحراء رغم ما تعيشه هذه الأقطار من لا استقرار بين الفينة والأخرى، تكون من بين أسبابه في معظم الأحيان الانقلابات العسكرية والاحتجاجات الجماهيرية والصراعات الطائفية على مستوى كل دولة على حدة، مما يؤثر سلبا على الأمن التجاري لهؤلاء المغامرين. وقد عرفت استثمارات هؤلاء انتعاشا وتحسنا كبيرا مع توطيد العلاقات الديبلوماسية بين المغرب و بعض الدول الإفريقية وعودته إلى الاتحاد الإفريقي بعد قطيعة دامت 32 سنة، والترحيب بانضمامه إلى المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا، وتوقيعه لما يزيد عن 1000 شراكة في مجالات الصناعة والتجارة والطاقات – على سبيل المثال لا الحصر – . وهو ما يدخل – كما يراه العاهل المغربي الملك محمد السادس – في إطار تعزيز التعاون داخل القارة السمراء، وتثمين العلاقات الطيبة التي تربط بين بلدنا ودول غرب افريقيا، من روابط إنسانية وحضارية وروحية عريقة ووشائج متميزة من التعاون المثمر والتضامن الفعال.

عود على بدء، يمكن تحصيل حاصل واحد متعارف عليه دوليا بين شعوب القرية الكونية، مفاده أن الشعب المغربي المقدام يبقى صانعا للملاحم والأمجاد على مر العصور والأجيال.

فرجوعا إلى فتح الأندلس، ومعركة الملوك الثلاثة ضواحي مدينة القصر الكبير، وحرب الرمال بالصحراء المسترجعة، وما يزخر به تاريخ المملكة من بطولات، فإن أبناء المغرب استطاعوا أن يبهروا العالم بعلو كعبهم وتفوقهم في مجالات عدة، تبرهن عن قوة الإرادة والعزيمة وتلاحم المكون البشري والاجتماعي والثقافي و الرياضي والمعتقداتي، والتفاف الشعب المغربي حول السلاطين والملوك الذين تعاقبوا على الحكم.
كما ترك فطاحلة وجهابدة علمائه وأعلامه ونجومه وأبطاله من الذكور والإناث بصمات خالدة في شتى أصناف مجالات الحياة.

والتاريخ حافلة صفحاته بأسماء مغربية كتبت أسماؤها بماء الذهب كيوسف بن تاشفين و المنصور الذهبي والقاضي عياض والسلطان محمد الخامس محرر البلاد، والملك الحسن الثاني باني السدود ومهندس المسيرة الخضراء، ووارث سرهما جلالة الملك محمد السادس صانع المغرب الحديث.

دون أن ننسى استحضار أسماء خالدة أخرى قديمة و معاصرة، أمثال الرحالة الشهير ابن بطوطة الطنجي، والقاضي عياض، والزعيم السياسي علال الفاسي، والعالم المهدي المنجرة، والمفكر محمد عابد الجابري، والشاعر والأديب عبد الله كنون، والفنان محمد الحياني، والرياضي بيتشو في كرة القدم، و سعيد اعويطة و نوال المتوكل في ألعاب القوى، وسائر المشاهير والنجوم الذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

إن مسيرة النبوغ عند المغاربة المنطلقة منذ آلاف السنين لم تتوقف يوما عند أسماء معينة لأشخاص معينين، بل لا تزال بطون بلاد المغرب الأقصى ولادة بنخب وعباقرة ونوابغ قدموا الشيء الكثير لبلدهم وللإنسانية جمعاء.

ففي الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر 2018، سطع في سماء المملكة المغربية نجم لامع ازدانت به علياؤها، وانضاف بريقه إلى بقية الكواكب والنجوم المتلألئة.. هو باقتضاب شديد نجم طفلة في عمر الزهور، تبلغ من العمر تسع سنوات، وتتابع دراستها في مستوى التعليم الابتدائي.. الصبية التي أسرت قلوب العالم العربي أجمع، وتابعت مشاهدتها الفضائيات العالمية، وهي تتوج بدولة الإمارات العربية المتحدة كأصغر مشاركة تتفوق على أزيد من 300 ألف من مواطنيها، وعلى 10.5 مليون منافس ومنافسة من جل الدول العربية، وكذا من كل دول المعمور، وتفوز بمسابقة ” تحدي القراءة العربي لسنة 2018 ” المندرجة ضمن مشاريع مؤسسة مبادرات محمد بن الراشد آل مكتوم العالمية، والتي انطلقت نسخته الأولى سنة 2016… إنها المغربية مريم أمجون، التي نزعت لقب هذه السنة في المرحلة الأخيرة من المنافسة من مشاركين من فلسطين و الأردن و مصر و الجزائر.

الطفلة مريم المساهمة في المسابقة بستين كتابا والقارئة ل 100 مؤلف، فازت ب 500 ألف درهم إماراتي، وقام بتسليمها درع التتويج صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة و رئيس الوزراء. كما تجدر الإشارة إلى أن القيمة الإجمالية لجوائز مسابقة تحدي القراءة العربي بلغت هذا الموسم 11مليون درهم إماراتي، أي ما يعادل 3 مليون دولار أمريكي، وموازاة مع نصيب أبطال المسابقة حظىيت ” المدرسة المتميزة ” الفائزة بمليون درهم إماراتي، و ” المشرف المتميز ” على 800 ألف درهم إماراتي.

فعلى منصة التتويج بمقر ” أوبرا دبي ” نهاية أكتوبر 2018، وفي لحظات خالدة عزف فيها النشيد الوطني المغربي ورفع فيه العلم الأحمر القاني الذي تتوسطه النجمة الخضراء، انهمرت دموع الصغيرة مريم وهي تمسك الدرع من الأمير الإماراتي الذي كفكف عبراتها بحنان يليق بصغر سنها و بحجم سحر ذكائها، وفصاحة لسانها، ودقة أجوبتها، وسلامة نحوها.

ومما أضفى تميزا خاصا على دورة هذا العام استقطاب مشاركي الجاليات العربية والمسلمة المقيمة خارج الأقطار العربية، ليقفز عدد الدول المشاركة إلى 44 بعدما اقتصرت مشاركة السنة الماضية على 16 دولة عربية فقط، وذلك بعد أن أفسح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم المجال لكافة الطلاب والطالبات العرب. وهي مبادرة غير مسبوقة يرمي من خلالها سمو الشيخ إلى تعزيز القراءة عند الناشئة في العالم العربي.

فالصبية مريم التي شرفت بلدها ومثلته خير تمثيل ورفعت رؤوس المغاربة، تلقت مباشرة بعد إعلان لجنة التحكيم عن فوزها الكاسح، مكالمة هاتفية من ملك المغرب محمد السادس الذي بادرها بالتهنئة والتنويه بإنجازها البطولي، وهو العطف المولوي السامي الذي ترك عميق الأثر في شخصية الصغيرة.. كيف لا وقد أضحت أيقونة ونموذجا يحتدى به من قبل الأطفال العرب خاصة وأطفال العالم بصفة عامة في ترويض لغة الضاد والتمكن منها، وسريان منطوقها على لسانها البريء زلالا سلسبيلا ، في زمن تهلهل الاهتمام باللغة العربية، وانساق أصحابها خلف البريق الواهم للغات تصدرت قائمة اللغات الأكثر نطقا على الصعيد العالمي كالإنجليزية و الصينية والهندية، إذ تأتي لغة القرآن ولسان الإله في الجنة في المرتبة الخامسة، والفرنسية في المرتبة التاسعة – حسب آخر إحصاء عالمي سنة 2018 –

ويرجع الفضل في تفوق مريم أمجون إلى والديها المشتغلين في قطاع التربية والتعليم، اللذين انتبها إلى ارتفاع منسوب توهجها الذهني منذ سنواتها الثلاث الأولى، واستثمار أمها وأبيها لهذه الملكة الربانية والأخذ بيد صغيرتهما إلى مقام التميز.

فصورة مريم تصدرت في ظرف يوم واحد أشهر الجرائد والصحف الورقية والمواقع الإلكترونية العالمية، وانتشر خبرها في شبكات التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم.. واعتبره مغاربة العالم الأزرق انتصارا بينا للغة العربية والحس الوطني والهوية المغربية.

تتويج مريم أمجون بنت المدرسة العمومية شكل درسا قاسيا وشوكة في حلق كل منتقصي اللغة العربية والتربية على المواطنة. فمقارنة مع الاستنكار الجماهيري المغربي لإدراج اللهجة العامية ” الدارجة ” في المقررات الدراسية، والفوز الأسطوري للصغيرة مريم، فإنه بات ظاهرا للعيان مدى اندحار حاملي شعار ” الدارجة لغة المستقبل “، وانتكاسة قوية لألويتهم.

فها هي ذي اللغة العربية تنتصر على يد العيلة البضة مريم أمجون، وها هي روح الشاعر المصري حافظ ابراهيم تعود إليه لتنتشي وتزهو فرحا وسرورا بعدما كان في عهده قد رثى لغة سيبويه وهو يتحدث على لسانها لحظة تحسره على تراجعها ودعوة خصومها إلى العامية.

والملاحظ اليوم، أن جيل الشعوب العربية المنفتح على اللغات العالمية، لا يجيد لغته القومية، وزاده فيها قليل إلى شبه منعدم. إذ تبلد شعوره وتكلس ذهنه وأضحىت وطنيته قاب قوسين أو أدنى. واختلق لنفسه لغة تواصل رقمية خاصة سميت بلغة ” الشات ” عبارة عن عربية مكتوبة بالحروف اللاتينية والأرقام، يتبادلها رواد الشبكة العنكبوتية في مواقع التواصل الاجتماعي.. ويطلق عليها في المغرب ” العرنسية “. وهي كما يبدو لكل متأمل وفاحص ليست بالعربية ولا الفرنسية ولا بالدارجة، بل هي مزيج لهذا الكل لا يمكن وصفها سوى بلغة الأميين. ناهيك عما أضاعه الجيل الصاعد – إلا من رحم ربي – من قيم وأخلاق ومواطنة، حيث أضحت العبثية والتهور والسطحية والبرغماتية والانغماس في الشهوات والملذات والانحراف واللامبالاة وعدم احترام الصغير والكبير والسادية والمازوشية والفيتيشية ، سمة تميزه وتحدد معالم سلوكه…

فهل شهد المغرب يوما احتجاجات مثيلة من حيث التهتك الأخلاقي كالذي عرفته احتجاجات تلاميذ وتلميذات المؤسسات التعليمية أمام مقر البرلمان بحر شهر نونبر الجاري (2018) بخصوص رفض الساعة الصيفية؟ وما شهدته من رفع شعارات نابية مقززة وحاطة بالكرامة في حق رئيس الحكومة… وهو عنف لفظي لا ينطق به إلا سفيه ومنحط ووضيع وسافل وعديم تربية.

إن ضمور القيم وموتها عند هؤلاء المتلفظين بهذا الكلام، هو ضمور كذلك لروح الوطنية التي تربت على تقديسها أجيال الحركية الوطنية و جيل ما بعد الاستقلال.. وأكبر دليل على هذه الظاهرة إقدام شرذمة من المحتجين أثناء الاحتجاجات على إضرام النار في العلم الوطني تعبيرا عن السخط والغضب وإهانة المقدسات.. إذ من المؤسف والعار أن يحدث هذا في وقت لم تمض فيه على رحيل كاتب النشيد الوطني ذ. علي الصقلي سوى بضعة أيام.

وعود على بدء، وارتباطا بعنوان المقال، تبقى الطفلة النابغة ” مريم أمجون ” التي خطفت لقب تحدي القراءة العربي 2018، مضرب مثل المغرب والمغاربة برفعها للراية الوطنية عالية في سماء دبي، وهي تبرز للعالم أجمع كفاءة المغاربة وقدرتهم على التفوق والتميز..

التعليقات مغلقة.