كلمة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض 26 ماي 2017

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه

– حضرات السيدات والسادة؛
إننا جميعا نَعْبُر مَرْحلةً تاريخيةً بامتياز … والرِّهانُ هو أنْ ننجحَ في تَرْك بصماتِنا على قارعةِ الطريق دليلاً للأجيال القادمةِ على مغاربةِ عهدِ جلالة الملك محمد السادس، الذي فتح لنا بوابة التاريخ على مصراعيها حين نصب جلالته المجلس الأعلى للسلطة القضائية، مُكَرِّماً قضاة مملكته الشريفة بِتَقَلُّدِ أمور القضاء بأنفسهم في استقلالٍ تام عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.
فإذا كانت الدساتير الرائدة في العالم تجمع على استقلال القضاء عن السلطتين، فإن القليلَ مِنْ بينها رَفَعَهُ إلى درجة سلطةٍ مستقلة قائمةِ الذات.
إن دسترة استقلال السلطة القضائية والقرار الملكي الحكيم بتنصيب مجلسها، يضعان نساء ورجال القضاء أمام تحد تاريخي، يتطلب منهم جميعا حشد الهمم ومظافرة الجهود لربح الرهان التاريخي.
وإذا كان إنشاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية يعتبر حدثا دستوريا شامخا، فإن انتقال السلطة على قضاة النيابة العامة من الجهاز التنفيذي إلى أحد أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، يعد حدثا محوريا في ترسيخ بناء استقلال هذه السلطة.
وإنني إذ أعتز بالثقة المولوية الكريمة التي وضعها جلالة الملك في شخصي المتواضع، لأعتبرها تكريما لكل قاض وقاضية في ربوع هذا الوطن العزيز .. ولذلك فإنني إذ استشعر جسامة المسؤولية وأقدر جيدا دقة المرحلة، فإني أقدم على تحملها مسنودا بثقة جلالة الملك الغالية، مستنيرا بتوجيهات جلالته النيرة للدفاع عن الحق العام والذوذ عنه، وحماية النظام العام والعمل على صيانته.
وإذا كانت هذه الدرر الغالية هي منهاج عملي على رأس النيابة العامة، فإن جلالة الملك حفظه الله حرص على أن يأمر مباشرة جميع قضاة النيابة العامة بالعمل وِفْقَهَا متمسكين “بضوابط سيادة القانون ومبادئ العدل والإنصاف” التي ارتأها جلالته : “نهجاً موفقاً لاستكمال بناء دولة الحق والقانون، القائمة على صيانة حقوق وحريات المواطنين والمواطنات، أفراداً وجماعات، في إطار من التلازم بين الحقوق والواجبات” (انتهى النطق الملكي الكريم).
أيها السادة إن اضطلاع رئاسة النيابة العامة بدورها هذا يتطلب إعطاءَ المؤسسةِ وضعاً قانونياً وتمكينها من مقر وإدارة وتنظيم هيكلي ومن موارد مالية وبشرية، وهو ما تسعى حالياً إلى توفيره بمساعدة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزارات العدل والمالية والأمانة العامة للحكومة والداخلية، وجميع هذه القطاعات تعمل على مساعدتنا لبناء رئاسة النيابة العامة وفق ما أمر به جلالة الملك. وهي مناسبة للتعبير للسيد الرئيس المنتدب للمجلس وللسادة الوزراء المسؤولين عن القطاعات الحكومية المذكورة وهياكله الإدارية عن خالص الامتنان.
– السيدات والسادة المحترمين؛
إن بناءَ السلطة القضائية لايقوم فقط على هياكلها في قمة الهرم، المتمثلة في المجلس الأعلى السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة وحدهما، وإنما يتطلب انخراط كل قاضيات وقضاة المملكة في العمل الجاد والمثمر للحصول على رضى المتقاضين وثقتهم بما يخدم الأمن والاستقرار ويوفر المناخ الملائم للنمو الاقتصادي والازدهار الاجتماعي، ويؤدي إلى تشجيع الاستثمار. ولن يتأتى ذلك بغير الجهد المتواصل منهم لإصدار قرارات وأحكام تستهدف تحقيق العدالة والإنصاف، وتَصْدُرُ في آجالٍ معقولة، ويتم تنفيذها في أوقات ملائمة مما يحقق الأمن القضائي ويخدم المبادئ الفضلى للعدالة والقانون.
وإن دور المسؤول القضائي – سواء السادةُ رؤساءً المحاكم أو المسؤولون القضائيون عن النيابة العامة بها، ليعتبر دوراً مِفْصليا في تحقيق هذه الغاية وبلوغ هذه الأهداف.
لقد دقت ساعة الحقيقة وآن الوقت الذي أصبح فيه دور المسؤول القضائي حاسماً في سلامة بناء أركان السلطة الجديدة، فالمرحلة لا تحتمل تأخر المسؤولين في اتخاذ القرارات الحاسمة فيما يخص تدبيرَ أمورِ محاكمِهم، أو انتظارَ جهاتٍ أخرى لحل بعض المشاكل التي تعترض السير العادي للمؤسسات التي يُشرِفون على تسييرها، وإنما تحتاج (المرحلة) إلى نساء ورجال من المسؤولين يحرصون على محاكمهم كما يحرصون على بيوتهم، ويرعون مرؤوسيهم كما يرعون أبناءهم وبناتَهُم بالتربية الصالحة والحرص اللازم على الاستقامة والنزاهة والتفوق …
إن اضطلاع المسؤولين بهذه المهام يقتضى بالضرورة تمكينهم من بعض الوسائل والآليات وتخْويلَهُم بعض السلط والصلاحيات .. ولاشك أن هذا الأمر سيكون واحداً من أهم الأوراش التي سيتصدى لها المجلس الأعلى للسلطة القضائية في المستقبل القريب بعد الانتهاء من إقامة هياكله الإدارية والتنظيمية.
غير أن المرحلة لا تحتمل الانتظار، إذْ أن كل تراخ في تحمل المسؤوليات بما يفرضه الضمير المسؤول الذي تحدث عنه جلالة الملك في أحد خطاباته السامية، ذلك أن كل انتظار قد يؤدي إلى استشراء عادات أو ممارسات قد يكون من شأنها المساسُ بمبادئ العدالة وتهديدُ أركانها التي لا تمس كما يحدث في الكثير من الحالات الانتقالية.
ولذلك فإنني أنتهز هذه المناسبة لأدعو كل زملائي المسؤولين القضائيين، وألح بالخصوص على المسؤولين على النيابات العامة من بينهم، من أجل أن يجعلوا من مسؤوليتِهِم عيناً لمبادئ العدالة والإنصاف، رقيباً على حسن تطبيق القانون وسلامة الإجراءات، وأن يتصدوا لكل مظاهر الإخلال والإنحراف، وأن يكونوا هم ومساعديهم حماةً للأمن والنظام العام، رُعاةً للحقوق والواجبات، حريصين على التوازن بينها بما يخدم الحق العام وصالح الوطن والمواطنين. كما أطلب منهم الاهتمامَ بكل الإشكاليات المهنيِة التي تحدُثُ خلالَ أو بمناسبةِ أداءِ أجهزة العدالة لمهامها، والتي يمكن حلُّها بِيُسْرٍ وسُهولة في بدايتها .. ولكنها قد تصبح سبباً لإشكالات أعظم إذا لم يقع الاهتمام بها في الإبان المناسب.
– حضرات السيادات والسادة؛
إن استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، لا يعني استقلالها عن الدولة والسباحةَ خارج تياراتها الأساسية المتمثلة في حماية أمنِ ومقدسات البلاد ومؤسساتها الدستورية وحقوقِ وحرياتِ المواطنين أفراداً وجماعات، وإنما يعني تمكين القضاة من الاضطلاع بمهامهم السامية دون تأثير أو تدخل من شأنها الانحرافُ بأحكامهم عن مبادئ العدالة والإنصافِ وأحكامِ القانون. وهو مبدأٌ حرِصَ عليه الدستور ويَحْميه جلالةُ الملك بواسطة المجلس الأعلى للسلطة القضائية باعتبار جلالته رئيسا لهذا المجلس.
وإذا كان تحقيق استقلال السلطة القضائية هدفُنا جميعاً فإنه لا يتعارض مع تعاون السلطة القضائية مع غيرها من السلطات وفقا للمبادئ المقررة في الفصل الأول من الدستور في إطار الاحترام اللازم للمؤسسات. وقد عبَّر المجلس الدستوري عن ذلك بمناسبة تحليله لمقتضيات المادة 540 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بالقول : “إن النظام الدستوري للمملكة لا يقوم فحسب على أساس فَصْل السلط، بل ينبني أيضا على توازن هذه السلط وتعاونها وفقا لما نصَّتْ عليه الفقرة الثالثة من الفصل الأول من الدستور”.
ولذلك فإن إقامة علاقة تعاون مع مصالح وزارة العدل يعتبر أمراً حتمياً يتطلب التنسيق المستمر بين المؤسسة القضائية والمصالح التابعة لوزارة العدل من أجل تحقيق غايات مشتركة تفرضها شروطُ إقامةِ العدل، ويقتضيها تساكنُ عدة مكونات لجسم العدالة في بناية مشتركة واستعمالُهم لِنفس الموارد المادية والبشرية، ولاسيما سَعْيُهُم جميعاً لخِدمة المواطنين وإحقاقِ العدالة. وهو ما يدعوني أن أطلب من جميع زملائي المسؤولين القضائيين وأخص من بينهم السادة الوكلاء العامين للملك إلى التحلي بالحكمة والتبصر لتدبير المرحلة بغاية إقامة علاقات مستقرة بين مختلف مكونات العدالة والاستمرار في تطوير أساليب التعايش السائدة داخل المحاكم نحو ما يخدم تطوير أداء العدالة.
وهو نفس الأسلوب الذي أدعو إلى نهجه وتطويره مع باقي الفاعلين في مجالات العدالة ولاسيما مع زملائنا من هيئات الدفاع وباقي المهن القضائية، حيث ينبغي أن يكون الحوار الجاد والمتبصر هو قوام تدبير الأزمات وأن يُعْتمدَ التواصل المباشر أسلوباً لتطويق الإشكاليات في احترام تام للقانون ولسلطة القضاء وأحكامه.
وأخيراً، وأنا أجدد سعادتي باللقاء بكم ونحن على أهبة شهر رمضان الكريم أعاده الله على جلالة الملك بالنصر والتمكين، وعليكم وعلى ذويكم بالنجاح والتوفيق، فإني أذكركم وأذكر نفسي بمهمتنا الأساسية هي إشاعةُ العدل والإنصاف بين الناس دون تمييز ولا محاباة والحكمُ بينهم بكل تجرد ونزاهة، والتحلي في مهامنا بالاستقامة والحياد .. وأن نجعل خدمة المواطن المغربي وحماية الوطن فوق كل الاعتبارات الأخرى، وفقا للتوجيهات الرشيدة السامية لرئيسنا المفدى جلالة الملك نصره الله وأيده.
ولأن الكلمات الأخيرة هي أكثر التعابير رسوخا في الذاكرة، فإني أريد أن أختتم بشكركم جميعا واحداً واحداً ومن خلالكم أشكر المسؤولين القضائيين عن محاكم الدرجة الأولى على ما بذلتموه وما يبذلونه من جهد مضني، وتقومون به من عمل مرهق على حساب أمور أساسية في حياتكم الشخصية .. راجيا الله أن يجازيكم على عطائكم الذي لا ينضب في خدمة العدالة. وفقنا الله جميعا لخدمتها.
ولنا في الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية خير مسير يمكنه تسيير أدائكم جميعاً لفائدة الوطن والمواطن لما يتميز به من كفاءة مهمة عالية وضمير مهني واعي وفكر متنور يدفع إلى الأمام قدما إنشاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التعليقات مغلقة.