السياسة في الصحراء.. حكم العائلة وريع الدولة

 

السياسة في الصحراء.. حكم العائلة وريع الدولة

لا يوجد مسؤول أينما كانت درجته في سلم هرم السلطة في المغرب، يعرف حقيقة سياسة الدولة في تدبير شؤون الصحراء، بما فيهم المتواجدين في فلك الدوائر العليا للقرار.. نعم هذا حكم قيمة مطلق، لكنه واقع أمر يقاوم تكذيبه.. فقد ظلت سياسة الدولة في تدبير كثير من الملفات الحساسة قائمة على عاملي “المزاج”، و”الضغط”.. وحتى سكوت الملك، في خطابه الأخير، عن قضية نزاع الصحراء، دليل على عدم وجود أي جديد يلوح في الأفق بخصوص الملف..

إقليم الصحراء، الذي تبلغ مساحته حوالي 266 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانه أزيد من 509 ألف نسمة، حسب الإحصاء الرسمي لعام 2014، يوصف في التقرير الرسمي الشامل للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (رسمي)، كونه منطقة “راكدة وغير حيوية، ومرتعا لاقتصاد الريع المنظم”، لا، بل ويزيد ان المشغل الوحيد في المنطقة، هو الدولة، فيما لا يشكل القطاع الخاص فيها، سوى 1 في المائة فقط.. ماذا يعني هذا؟

يعني ان الدولة تعترف رسميا بـ”فشل” مخططاتها طيلة السنوات الماضية إزاء التشغيل والتنمية في المنطقة، على الرغم من وجود ثروات السمك والفوسفاط الكفيلة بحل معضلة التشغيل.

لكن بين ثنايا هذا “الفشل”، وعلى الرغم من خمسة حلول مقترحة من لدن منظمة الأمم المتحدة، ما يزال الإقليم، قيد نزاع أممي بين المغرب، وجبهة “البوليساريو” (اختصار “جبهة تحرير وادي الساقية الحمراء وودي الذهب” بالاسبانية)، منذ 1975، ما يطرح الكثير من التساؤل حول “المستفيدين” من إطالة هذا النزاع شرق وغرب الجدار الرملي؟

مساحات اللعبة السياسية

تتحدد معالم ومساحات اللعبة السياسية في الصحراء، في جانبين اثنين : الأول ضيق ومحدود، يقوم على قواعد “اللعبة السياسية” القائمة في البلاد عموما، والمختصرة في نزال الأحزاب السياسية انتخابيا، أما الثاني، فهو على درجة من الحساسية للدولة، ولذلك تحتكره لنفسها، وهو الذي يخص “لعبة” النزاع الأممي والإقليمي حول ملف نزاع الصحراء.

بالرجوع إلى تحليل النتائج الرسمية، للانتخابات الجماعية والجهوية، في الـ4 من شتنبر 2015، ثم البرلمانية في السابع من أكتوبر 2016، تظهر في مجملها تصدر ثالوث تقليدي في المنطقة : “الأصالة والمعاصرة”، “الاستقلال”، و”العدالة والتنمية”.

الوافد الجديد ضمن هذا الثالوث هو حزب “العدالة والتنمية”، الذي استطاع منذ 2011، التواجد “مقعديا”، في المنطقة، رغم ضعف شعبيته لدى الصحراويين، و”توغل” عائلات أخطبوطية متحكمة في الخريطة الانتخابية بالمنطقة، اعتمادا على ثنائي “القبيلة –المال”، ناهيك عن استفادتها لعقود من ريع الدولة الممنهج.

حملات “التسييس”

تأخذ حملات “التسييس” في الصحراء، وجهين نقيضين، الأول تعمل عليه جاهدة وبشكل دؤوب جبهة “البوليساريو” مع تشكيلاتها الحقوقية بحواضر الإقليم، لتكوين حضن اجتماعي أوسع وزرع ثقافة الإيمان بـ”حق تقرير المصير والمطالبة باستقلال الصحراء عن سيادة المغرب”.

وفي المقابل، تظل الأحزاب السياسية في المنطقة، وتشكيلاتها النقابية والجمعوية، حبيسة تأطير سياسي محتشم لشباب المنطقة، ما عدا المناسبات الانتخابية، التي ترفع من نسبة الاستقطاب وحماسة المشاركة السياسية في صفوف الصحراويين.

“ريع” الدولة

يعتمد المغرب منذ زمن الملك الراحل، ضمن آليات ضبط المجال بالصحراء، على “عائلات أخطبوطية” اتصلت بالسياسة منذ عهد الاستعمار الاسباني، والاقتصاد منذ زمن “آكبار”، وهي العائلات، التي جرّدتها الدولة، من ميكانيزمات التحكم في الخريطة السياسية لمصير ملف النزاع، وتركت لها هامش “اللعب” في النزال الانتخابي..

الحديث عن “ثراء” هذه العائلات، و”توغلها”، السياسي –الانتخابي في منطقة ستاتيكية راكدة، تنعدم فيها شروط “كنز الثروة”، يعود بالأساس إلى عنوان عريض إسمه “الريع”. لكن بأي شكل وبأي حماية؟.

واقع الوضع ليس مضمرا، فقد أقرت به ضمنيا أعلى سلطة في البلاد، وهي الملك، حينما أعلن في خطابه بالعيون، نونبر 2015، عن “القطع مع فترة الريع”..  وهو اعتراف ضمني، بكون المنطقة، دفعت ضريبة الريع وما صاحبه من اقصاء وتوغل لعائلات إقطاعية،  لفترات طويلة، وما تزال..

تقرير “المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي”، وهو مؤسسة رسمية للدولة، حول الصحراء، يقر هو الآخر بـ”وجود ريع منظم تحتكره أقلية من الأعيان”، وهو مؤشر قوي آخر، على كون الاقصاء الناتج عن هذا “الريع المنظم”، تتحمل وزره الدولة في المقام الأول..

لكن المثير هنا..  ان “توغل” عائلات إقطاعية مستفيدة حصرا من الريع في المنطقة، خرج عن توقعات الدولة نفسها، بشكل جعل السلطة الرسمية في البلاد، تراعي فيه “موازين القوى” مع هذا النوع المعقد من “الأعيان”..

هذا الواقع، يعود بنا إلى كلام الوزير المنتدب لدى وزارة الداخلية السابق، ومؤسس حزب “الأصالة والمعاصرة”، والمستشار الملكي الحالي، فؤاد عالي الهمة، بالعيون، عام 2009، حينما كشف صراحة ان “الدولة لم تعد تعرف ما يجري في الصحراء لفترة ما.. وان قدومه للعيون هو بغاية تحييد –ضرس- بالقوة..”، وهي إشارة إلى “توجس” الدولة من “التوغل” الملفت لبعض العائلات الأخطبوطية، التي صنعتها في المنطقة !

عائلات أخطبوطية”

فروع شجرة العائلات “الاخطبوطية” المتحكمة في الثروة والخريطة السياسية -الانتخابية بالصحراء، يمكن اختزالها في أربعة عروش عائلية كبرى، تتقاسم صفة الثراء والاستفادة من “الريع الممنوح”، وتتفاوت درجاتها من حيث التأثير والنفوذ السياسي والانتخابي بالمنطقة.

عائلة “آل الرشيد” : المنحدرة عن قبيلة “الركيبات-التهالات”، هي أحد هذه العائلات المتحكمة في الخريطة الانتخابية بالصحراء، تسير بلدية العيون، منذ مستهل تسعينيات القرن الماضي، وتترأس مجلس جهة “بوجدور الساقية الحمراء”، علاوة على تعيين أحد أفرادها، هو خليهن ولد الرشيد، على رأس وزارة الشؤون الصحراوية، قبل تعيينه رئيسا للمجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية (كوركاس)، الذي ظل دوره صوريا منذ تأسيسه عام 2006.

وعرف احتكارها لصفقات تجارة الرمال بالمنطقة مع الضفة الإسبانية، إضافة إلى شركات تصبير السمك والعقار.

حزبيا، ظلت وفية للونها الحزبي (الاستقلال)، عقب تجارب سابقة (حزبي التجمع والحركة الشعبية)، وذلك بعد عقدين من انسحاب الاستعمار الاسباني، ونهاية تزعم خليهن ولد الرشيد (رئيس الكوركاس حاليا) لحزب “البونص” الإسباني (حزب الاتحاد الوطني الصحراوي)، الذي كان يعول عليه المقيم فرانكو، جنرال الاستعمار الاسباني، لإستمالة الصحراويين لوجهة النظر الإسبانية.

واستطاعت هذه العائلة توسيع قاعدتها الاجتماعية (الانتخابية) في المنطقة، واستمالة التشكيلات الجمعوية الشعبية، خارج الأزمنة الانتخابية.

عائلة آخرى، كانت رقما صعبا في المعادلة الانتخابية بالصحراء، هي عائلة“آل الجماني”، المنحدرة من قبيلة “الركيبات –لبيهات”، التي دأبت على خوض غمار الانتخابات لمنافسة “آل الرشيد”، بإسم حزب “الحركة الشعبية”، بالعيون، كبرى حواضر إقليم الصحراء.

واقتصاديا، تعد العائلة من أول العائلات التي اعتمدت عليها الدولة، بإغراءات “ريعية” خاصة، ابتدأت مع سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، عقب لقاء المبايعة الشهير الذي جمع بين الملك الراحل، الحسن الثاني، ورب العائلة المقاوم، خطري ولد سعيد الجماني، خريف عام 1975.

استطاعت منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تطوير واستثمار ثروة الريع الممنوحة، إلى صفقات مالية وتجارية كبرى، تهم استيراد المحروقات وتسويقها، وصفقات النقل الحضري، وأملاك عقارية ثمينة، وامتلاك أكبر قطيع إبل عابر للحدود الموريتانية.

العائلة الثالثة، هي “آل الدرهم”، المنحدرة من قبيلة “أيت باعمران- أيت أيوب”، التي استطاعت فرض وجودها التجاري، منذ السنوات الأخيرة للاستعمار الاسباني، في إقليم الصحراء، وسارع بذلك، حزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، إلى استقطاب أحد أبنائها، وهو رجل الأعمال، حسن الدرهم، بغية تقوية وتمويل وجود الحزب في حواضر الصحراء.

وتوال تراجع “الدرهم”، في الخريطة الانتخابية بالصحراء، في كل من بلديات المرسى، طرفاية، والداخلة.

واقتصاديا، ظلت العائلة، عبر ابنها حسن الدرهم، من كبار صفقات المسوقين للمحروقات في المنطقة، بعد فرصة تحرير سوق توزيع المحروقات بالمغرب، عام 2005، فضلا عن أسطول بواخر الصيد الساحلي، وصفقات حصرية مع أوروبا، لتصدير طماطم ضيعات الداخلة.

“آل بوعيدة”، هي الأخرى من العائلات الانتخابية، في منطقة “وادنون”، التي طالما اعتمد عليها وما يزال حزب رجال الأعمال “التجمع الوطني للأحرار”.

وفي جانب الثروة، تمتلك العائلة، عددا مهما من مطاحن المغرب، جعل لها النصاب لترأس “الفدرالية الوطنية لأرباب المطاحن”، في المغرب، فضلا عن العقار، وصفقات توزيع وتسويق المحروقات.

+++

وبذلك فإن الصراع في الصحراء، وجودي بالأساس، ليس فقط بين الدولة، وجبهة “البوليساريو”، بل بينها ومن صنعتهم في الأمس القريب في رحاب مملكة الريع، حتى بلغوا حدا من التوغل والابتزاز..

فبعيدا عن هذه الفوضى.. ما تزال هناك نقطة ضوء، إنها الكرامة والإحساس بعزة النفس حد الغرور المنتشي بالترفع والكبرياء لدى الصحراويين في المخيمات والأقاليم، الذين استطاعوا الصمود طيلة أربعة عقود ونيف، تحت وهن الإقصاء وحرب الدعاية..

وبذلك فليس أمام الدولة اليوم سوى التخلي عن العقلية “الكولونيالية” المتقادمة، في تدبير الوضع في الصحراء..

أتذكر هنا كلام الملك الراحل الحسن الثاني، حينما اعترف أمام قادة الجبهة الذين جاؤوا للقائه بمراكش، بأن المغرب كسب الأرض (أرض الصحراء)، لكنه لم يكسب قلوب أهلها.. فهذا الكلام قاله الملك الراحل نهاية الثمانينات من القرن الماضي، لكنه مازال صالحا لتحليل ما يجري اليوم في تدبير الدولة للوضع في الصحراء، واختصار الصحراويين في مجرد “عائلات اقطاعية”، تخلقهم كـ”أوصياء” على الساكنة، وهي تعرف يقينا انهم ليسوا أوصياء سوى على مصالحهم في رحاب ضيعات ريعها الممنوح..

عبيد أعبيد

التعليقات مغلقة.