مقال المغفور له الحسن الثاني بافتتاحية جريدة النهار اللبنانية حول الحرية والأحرار.

أش واقع ؟ | المغرب.

يقوله جلالته رحمه الله: إن أكبر كارثة يمكن أن تلحق أمة من الأمم هي مسخ شخصيتها ولباسها غير جلدها، والسير بها في طرق تتنافى مع تراثها وماضيها وتناقض طبائعها و أمزجتها. لقد ظهرت في القرن نظريات اعتبرها البعض مقاييس للحرية، وحسبها كفيلة بتحقيق الثورة في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي على الخصوص، من ذلك أن الدول النامية أخذت تنظر بعين الإعجاب إلى ما حققته الثورة الاشتراكية في روسيا من تقدم وتطور، ولكن هذه الدول تنسى مع الأسف أو تتناسى أن الثورة الروسية لم تؤت أكلها إلا لتوفر عدة عوامل كفلت لها النجاح، من ذلك أن روسيا كانت تتوفر سنة 1917 على نخبة من الرجال المقتدرين كما وكيفا، يفوقون بكثير عدد الرجال الذين تتوفر عليهم الدول النامية التي تحاول اليوم اللحاق بركب التقدم والتطور، ومنها أن المسؤولية عن الثورة الروسية فهموا أن الأسبقية يجب أن تعطي للتجهيز الإنساني، ومن تم ضاعفوا من الجهود لتكوين المسيرين والعملة الأكفاء الذين يستطيعون بأفكارهم وسواعدهم أن يبنوا نهضة تقنية جبارة، حتى أصبحت الجامعات الروسية تخرج كل سنة مائة ألف من المهندسين.إن بعض الدول النامية تعتقد أنه لكي تتحرر من التخلف وتصل إلى ذروة التقدم التقني بكفيها أن تطبع نظامها وإدارتها بطابع التخطيط والتنظيمات الجماعية الجماهيرية، وبسبب هذا الاعتقاد تسربت إليها الفكرة التالية: وهي الجدية و الإنتاج يتناقضان مع الحرية، وكيفها كان الأمر فإن الإنسان عندما يفكر و يتأمل فلسفة مختلف المدنيات والحضارات يدرك أن هذه الفكرة لا يمكن أن تطبق على الشعوب العربية، لأن الروح العربية الأصيلة هي وليدة البيئة الجغرافية والاقتصادية التي نمت فيها وترعرعت. لقد عاشت الأمة العربية في أرض قاحلة ولم تعرف صناعة ولا فلاحة، كما لم تعرف حياة مستقرة بالمدن والقرى، ومن شأن أمة تلك روحها وهذه بيئتها أن يكون أبناؤها فرديين يهيمون بالحرية ويمجدون الكرامة الفردية، أو القبلية إلى أقصى حدود التمجيد. ومع أن العرب خرجوا من باديتهم بعد الإسلام واستوطنوا أقطارا أخرى وخالطوا أمما وشعوبا عديدة لم يسنهم ما جبلوا عليه من هيام بالحرية الفردية والعصبية والقبلية.

ولكن لكل حرية حدها… فما هي بداية الحرية؟ … وما هي نهايتها؟.

سؤال توارد من قبل على أذهان كثير من الفلاسفة والمفكرين والمربين، ولكنهم لم يهتدوا إلى قواعد ثابتة يمكنهم معا أن يقولوا: هنا تبتدئ الحرية، وهنا تنتهي، على أنه يجب الإقرار بأنه لا مناص في القرن العشرين الذي هو قرن التخطيط والإنتاج من الخضوع لإطار معين، ولكن دون أن يؤدي هذا الخضوع إلى القضاء على الشخصية القومية. ويمكننا أن نتساءل عن النتائج التي حصلت عليها بعض الدول التي قبضت التضحية بالفرد وتسخيره لفائدة الإنتاج، هل ارتفع بسبب ذلك دخل الفرد فيها؟ أم ارتفع الدخل القومي؟ إن الرفاهية الوطنية ما هي إلا مجموع رفاهية المواطنين، كما أن الكرامة الوطنية هي مجموع كرامة المواطنين. سيدة في نطاق حدودها، ومن الناحية الشكلية، ولكن لا يقام لها وزن في المجموعة الدولية، فما هو مقياس الحرية في القرن العرشين؟ إن كانت الديمقراطية مبنية في القرنين الثمن عشر والتاسع عشر على الحرية والمساواة والإخاء، ومحددة بأنها حكم الشعب ، فإن مقتضيات القرن العشرين ومقاييسه أظهرت خطأ هذا التحديد وعجزه، لأنه من رجوع…. إن تلك الورقة لا تمنعه من أن يكون عبدا في صورة حر…. عبدا للجهل والمرض و الفاقة وفقدان السكنى…. إن الحرية إن لم تكن متكاملة من جانبها المادي والمعنوي فهي كالجسد الأشل، لا يمكن أن يؤدي أية خدمة لأسرته الصغيرة ولا لأسرته الكبيرة، فالمشكل هو إيجاد توازن أكمل وأمتن بيت الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية، التي تضفي على الشعوب سمة الكرامة، وبين الامتثال الذي لا مناص منه للأنظمة والقوانين، بهذا وحده يكون المجهود الفردي والجماعي المطابق لمخطط ونظام قيمنا بأن يكفل للفرد تحررا ماديا ومعنويا، ومن الخطأ الشنيع أن تعكس هذه المنطقية فنقول: إنه يجب أن نبدأ باستبعاد الإنسان روحيا لنضمن له بعد ذلك حرية مادية. فعلى المسؤولين على مصير الشعوب إلى أن ينتبهوا إلى أن الاستعباد لم تعد له اليوم صورة واحدة محددة معروفة كالرق المعروف في الماضي أن الاستعباد مظاهر وصورا شتى، منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو خفي…قد يكون المرء مستعبدا في مراسلاته… مستعبدا في تنقلاته… مستعبدا في التعبير عن رأيه… مستعبدا في اختياره، وقد يكتسي الاستعباد في بعض الأحيان حجلة براقة، توهم أن لا بسها حر. فحذار أن تشتبه عليهم سبل الحرية، وتلبس عليهم مفاهيمها الحقيقة فيستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. ذلك كان مقال جلالته رحمه الله إلى السيدة علياء الصلح، الذي كان افتتاحية في جريدة النهار اللبنانية في عددها 8751 بتاريخ 16 يونيو 1964. وكان نشر المقال في شهر يونيو تحية من جريدة النهار لجلالته بمناسبة عيد ميلاده، وقد شغل نشره لفترة من الوقت أوساط المفكرين والمثقفين اللبنانيين، لما لمسوه فيه من اتجاه في مفهوم الحرية، وأنه سيكون فلسفة الحكم في المغرب وهو يحبو نحو الديمقراطية وبناء مؤسسات عصرية للدولة ، فهل تحققت طموحات جلالته وسعيه في تحرير المواطن من عبودية القرن العشرين؟ عبودية الجهل والفقر والمرض والبطالة والاستغلال.

التعليقات مغلقة.